صدر قبل بضعة أسابيع من إعداد وترجمة وتعليق كاتب هذه السطور كتاب «من قتل رفيق الحريري؟ أو هكذا أثبت الشهيد وسام عيد أن حزب الله اغتال الحريري»، (مدارك للنشر، 244 صفحة، 2014). والكتاب عبارة عن تحقيق استقصائي للصحافي الكندي البارز نيل ماكدونالد. نيل ماكدونالد هو كبير مراسلي هيئة البث الكندية (سي بي سي) السابق في الشرق الأوسط (1998-2003). حصل عام 2004 على جائزة غميني الكندية للتحقيق الاستقصائي. ونشر هذا التحقيق المثير والكاشف عن مقتل الحريري بتاريخ 21 نوفمبر 2010، على موقع (سي بي سي) الإلكتروني. نشرنا الأسبوع الماضي الحلقة الأولى من المختارات ونكمل اليوم مع الحلقة الثانية والأخيرة:
عملية الحذف
(Process of Elimination)
ولكن النقيب عيد لم يكن مهتماً بالخوض في بعض النظريات المتشعبة والمثيرة التي تسود لبنان. لقد استنتج منطقياً بنفسه أن العثور على أول آثار القتلة كانت تتطلب عملية رياضية تسمى بـ «عملية الحذف» (Process of Elimination). ومن شركات الهاتف اللبنانية، حصل عيد على سجلات المكالمات لـ «جميع» الهواتف المحمولة التي اتصلت مع أبراج الاتصالات في المنطقة المجاورة مباشرة لفندق سان جورج، حيث وقع الانفجار الهائل الذي نتجت عنه حفرة عميقة. وبعدما حصل عيد على تلك السجلات، بدأ بعملية الحذف حيث استبعد مئات من الهواتف في المنطقة في ذلك الصباح، استبعد أيضاً تلك الخاصة بالقتلى الـ 22، ثم تلك التي تخص حاشية الحريري، ثم أولئك الناس الذين في الجوار وأجريت معهم مقابلات وثبت أن موقفهم سليم. وبسرعة معقولة، اكتشف الهواتف «الحمراء» التي استخدمها فريق الاغتيال. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد. لقد تعقب بمثابرة ودأب الأبراج التي تواصلت معها الهواتف الحمراء في الأيام التي سبقت عملية الاغتيال، وقام بمقارنة تلك السجلات مع جدول مواعيد رفيق الحريري، ليكتشف أن هذه الشبكة كانت تتعقب الحريري كظله. وكان من الواضح أن حاملي الموبايلات الحمراء مجموعة منضبطة. كانوا يتصلون ببعضهم البعض فقط، ولم يتصلوا بهاتف خارج شبكتهم الحمراء مطلقاً. وبعد الاغتيال مباشرة، اختفت الشبكة الحمراء إلى الأبد. ولكن عيد عثر على رابط آخر. لقد اكتشف وجود ثمانية موبايلات أخرى كانت تستعمل في وقت متزامن أبراج الاتصالات نفسها، كالموبايلات الحمراء. الخبراء يطلقون على مثل هذه الهواتف «هواتف موازية» (co-location). ما اكتشفه النقيب عيد هو أن كل عضو في فريق الاغتيال كان يحمل موبايلاً سرياً ثانياً، وأن أعضاء الفريق استخدموا هواتفهم الثانية للتواصل مع شبكة دعم أكبر بكثير وموجودة منذ سنة على الأقل. وسمت لجنة التحقيق لاحقاً هذه مجموعة بـ الشبكة «الزرقاء».
شبكات أكثر:
عميل أحمق يفضح حزب الله
الشبكة الزرقاء كانت أيضاً منضبطة جدّاً؛ وهي، أيضاً، ظلت شبكة «مغلقة». ولم يقم أي عضو فيها بزلة حمقاء من النوع الذي يبحث عنه المحققون. ولكنهم كانوا يحملون «هواتف موازية» وواصل عيد تعقب أثرهم الذي كان يستمر في الاتساع. ثم حدث اكتشاف مذهل عندما تم إغلاق الشبكة الزرقاء، وعلم لاحقاً أن تلك الهواتف جمعت بواسطة أخصائي إلكترونيات صغير يعمل لدى حزب الله اسمه عبد المجيد غملوش. كان غملوش، على حد تعبير محقق سابق في الأمم المتحدة، «أحمق». لقد كانت مهمته أن يجمع ويتخلص من الموبايلات الزرقاء، ولكنه لاحظ أن بعضها لا يزال يحتوي على رصيد لم يستعمل، ولذلك قام بالاتصال بصديقته، صوان؛ أي أنه كشف نفسه أمام النقيب عيد. لقد كان تصرف غملوش الأحمق، كما لو كان قد كتب اسمه على لوحة ورفعها خارج مقر قوى الأمن الداخلي، ليتم التعرف عليه بسهولة. وفي نهاية المطاف، قاد غباء غملوش النقيب عيد إلى أخوين يدعيان حسين ومعين خريس، وكلاهما من عناصر حزب الله؛ وأحدهما ثبت أنه كان في الواقع في موقع الانفجار.
وواصل النقيب البحث، ليكتشف المزيد والمزيد من الهواتف المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر مع فريق الاغتيال، واكتشف نواة شبكة ثالثة، وهي فريق رصد طويل المدى، والذي أُطلق عليه في نهاية المطاف اسم «الشبكة الصفراء». وأدى بحث عيد إلى اكتشاف مهم آخر: كل الشبكات المتصلة بالاغتيال تؤدي، بصورة مبهمة، إلى خطوط هاتفية ثابتة داخل مستشفى الرسول الأعظم التابع لحزب الله في جنوب بيروت، وهو قطاع من المدينة يسيطر عليه كلياً حزب الله، وهو المستشفى الذي يقال إنه يحتوي على مركز للقيادة. وفي نهاية المطاف، تم اكتشاف شبكة أخرى من أربعة هواتف سميت بـ «الهواتف الوردية» التي تتواصل مع كل من المستشفى وبطريقة غير مباشرة مع الشبكات الأخرى. واتضح أن هذه الهواتف مهمة بشكل هائل. فقد اتضح أنها صدرت عن الحكومة اللبنانية نفسها، وعندما تم سؤال وزارة الاتصالات عمن استلمها، جاء الجواب على شكل سجل حكومي صريح. سي بي سي حصلت على نسخة من هذا السجل المقدم إلى اللجنة. وفي السجل وضع أحدهم تظليلا أصفر (هايلايتر) على أربعة أرقام هاتف ضمن عمود طويل من الأرقام التي تتكون من ست خانات. وبجانب تلك الأرقام المميزة بالأصفر، كُتب باللغة العربية: «حزب الله»!!
كالعادة: شماعة إسرائيل
حزب الله، يملك عدة مقاعد في الهيئة التشريعية اللبنانية، وكان في ذلك الوقت جزء من الائتلاف الحاكم، وبالتالي حصل على الهواتف التي تصدرها الحكومة. وأخيراً، حصل عيد على قرينة قوية من أفضل مصدر: لقد تم الاتصال به من قبل حزب الله نفسه، وقالوا له إن الهواتف التي يتعقبها كانت تستخدم من قبل عملاء لـ حزب الله في عملية مكافحة تجسس ضد الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، وأن عليه أن يتوقف ويتراجع عن التحقيق. ولم يكن من الممكن أن يكون الإنذار أكثر وضوحاً.?
وكما لو كان يراد تأكيد جدية الإنذار، تم استهداف رئيس عيد، المقدم شحادة في تفجير من قبل مهاجمين في سبتمبر 2006. وقتل في الانفجار أربعة من حراسه ونجا شحادة، وأُرسل إلى كيبيك في كندا، لتلقي العلاج الطبي وإعادة التأهيل. وبحلول ذلك الوقت، كان النقيب عيد قد أرسل تقريره إلى لجنة الأمم المتحدة، وانتقل إلى مهمة أخرى. تم إدخال تقرير عيد في قاعدة بيانات لجنة الأمم المتحدة بواسطة شخص، إما أنه لم يفهم أهميته أو لم يهتم بما فيه الكفاية بتمريره للمسؤولين، واختفى التقرير!
غضب وعار
وبعد عام ونصف العام، في ديسمبر 2007، وبعدما ظهر تقرير عيد أخيراً، كان رد الفعل الفوري لفريق تحليل الاتصالات للأمم المتحدة هو الحرج ثم الشك. لقد ادعى عيد، أنه أجرى التحليل والبحث باستخدام برنامج «مايكروسوفت أوفيس إكسل» ولا شيء سواه. ولكن الخبير البريطاني، قال إن ذلك كان من المستحيل. وزعم أن لا أحد يمكن أن ينجز شيئاً من هذا القبيل، من دون مساعدة جهاز كمبيوتر قوي مع التدريب اللازم. لا يمكن لهاوٍ - مثل عيد في رأيه - أن ينخل ملايين المكالمات ويستخرج شبكات فردية. من المؤكد، أن هذا النقيب عيد قد تلقى مساعدة، كما اعتقد خبير الاتصالات. لا بد أن شخصاً ما أعطاه هذه المعلومات. أو ربما كان هو متورطاً بطريقة أو بأخرى؟
عندئذ جاء يناير 2008، ووصل مفوض جديد ليترأس لجنة الأمم المتحدة، وهو مسؤول قضائي (مدعٍ عام) كندي يدعى دانيال بلمار. وكان المحققون قد بدأوا يعتقدون أخيراً أنهم في طريقهم لحل اللغز. وتم إرسال وفد من خبراء الاتصالات لمقابلة عيد. وبعد أن استجوبوه عادوا وهم مقتنعون أن عيد، بطريقة أو بأخرى، كشف عن تلك الشبكات بنفسه ومن دون مساعدة خارجية. لقد استنتجوا أن النقيب عيد هو واحد من أولئك القلة النادرة من البشر الذين يملكون قدرات غريزية استثنائية وحدس مدهش في الرياضيات والمنطق، مثل تحديد الأنماط الحسابية المتكررة وتخطيط عدة حركات قادمة في لعبة الشطرنج. والأفضل من ذلك، أنه كان متحمساً للمساعدة في التحقيق مباشرة. لقد كان يريد أن يواجه قتلة الحريري العدالة، وليذهب إنذار حزب الله إلى الجحيم. لقد كان صاحب إمكانات أدهشت فريق الأمم المتحدة. هنا محقق لبناني فعلي، يملك رؤى واتصالات لا يملكها الأجانب في لجنة الأمم المتحدة. وبعد أسبوع، تقابل فريق أكبر من الأمم المتحدة مع النقيب عيد، ومرة أخرى، ومجدداً سارت المقابلة بشكل جيد. ثم في اليوم التالي، 25 يناير2008؛ أي بعد ثمانية أيام من أول مقابلة لعيد مع محققي الأمم المتحدة، لقي النقيب وسام عيد حتفه تماماً بنفس أسلوب اغتيال الحريري. القنبلة التي فجرت سيارته ذات الدفع الرباعي قتلت أيضاً حارسه وثلاثة من المارة الأبرياء. وقدم لبنان لعيد جنازة متلفزة، وفي أروقة لجنة الأمم المتحدة، كان هناك الكثير من الغضب مع العار.
ولأنه لم يكن هناك أي شك في ذهن أي عضو من أعضاء فريق الاتصالات لماذا قتل عيد، استنتجوا أن حزب الله قد عرف أن تقرير النقيب عيد قد تم العثور عليه، وأنه التقى بمحققي الأمم المتحدة ووافق على العمل معهم. وعلى الفور، قام فريق الاتصالات بجلب جميع سجلات الأبراج الخلوية بالقرب من موقع الانفجار الذي قضى فيه عيد معتقدين أن القتلة قد يكونوا قد تركوا أثراً يمكن تتبعه. ولكن ليس هذه المرة. لم يكن هناك شيء يمكن تعقبه. هذه المرة نفذ القتلة الاغتيال كما كان ينبغي أن يفعلوا: استخدموا أجهزة راديو لاسلكية، وليس الهواتف المحمولة. أجهزة الراديو لا تترك أي أثر(***). وهنا واجه فريق الأمم المتحدة مشكلة واضحة؛ فخصمهم لا يعرف فقط ما يفعله محققو الأمم المتحدة، ولكنه يعرف قدراً كبيراً من التفاصيل. وكلما فكر محققو الأمم المتحدة في ذلك، ركزوا على رجل واحد: العقيد وسام الحسن، الرئيس الجديد للاستخبارات اللبنانية.
هوامش المترجم:
(*) أي حذف المعلومات التي يعتقد أنها غير مفيدة أو غير صحيحة أو مكررة لتقليل عدد البيانات التي ينبغي تحليلها، وبالتالي تسهيل الوصول للحل. (العيسى)
(**) أي كما يقول المثل العربي: «يكاد المريب أن يقول خذوني»! (العيسى).
(***) أو ربما لأن السيد عبد المجيد غملوش انتقل إلى الرفيق الأعلى بطريقة طبيعية أو غير طبيعية! (العيسى).