حين أكون في زاوية الرؤية التي ترصد قامة شعرية وفكرية بحجم «صديقي وشبيهي وأخي» الشاعر الدكتور صالح بن سعيد الزهراني، فإن شكلاً من استعصاء العبارة، وشكلاً من اتساع الرؤية، يستبدَّان بي. المسافة هنا بين الرائي والمرئي قريبة إلى حدود التماهي، وشاسعة إلى حدود الضياع. الرؤية عبور مسافة بالضرورة، حاجة إلى الانفصال عما تراه، لكنها أيضاً حاجة إلى الاقتراب منه؛ فكيف لي أن انفصل عن «صديقي وشبيهي وأخي» أو اقترب منه؟! لابد أن يكون الانفصال والقرب في هذه الحالة ضد قانون الرؤية فيزيائياً ومنطقياً، إلا إذا كان من الممكن أو السائغ أن ينفصل المرء عن ذاته ويتباعد عنها أو يقترب منها، وإذا أمكن ذلك وساغ فهل تبقى المسافة هي المسافة؟! وهل تبقى الرؤية هي الرؤية؟!
ما أراه في هذا الموقف، ليس «الرؤية إلى..» بل «الرؤية بـ..» والرؤية مع ..»، وهاتان الأخيرتان وصف لضرب داخلي من الرؤية لا يأخذ بقوانين الرؤية الخارجية، أي قوانين الرؤية إلى الأشياء والموضوعات، ولا يحتاج إلى مسافة عن المرئي وانفصال عنه، بل على العكس من ذلك إلى توحُّد معه واندماج فيه وتماه معه. ولن يكون الموقف - هكذا - اصطناعاً إجرائياً، بل ممارسة طبيعية تقتضيها سنوات زمالة ودودة تمتد من تخوم الطفولة إلى حافة المشيب، من تشارك الأحلام والطموحات والمكان طلاباً في معهد الباحة العلمي إلى مسافات سفر وعمل تتباعد بنا عنا، لكنها تتكشَّف لنا كلما تزايد بعادنا عن تلك الجوهرة السحرية التي لمعت بين أيدينا ذات دهشة، وما زالت تشدُّنا، لأهتف لأبي مازن عند كل لقاء: «يا صديقي يا شبيهي يا أخي»!.
كان الدكتور صالح شاعراً مذ عرفته، وشاعريته هذه تجاوز مدلول الشاعرية الذي يحصرها في شكل اصطلاحي من الكلام تعارفه القوم وتعرَّفوا فيه على الشاعر: شخصيةً بالغة الأنانية والنرجسية، أو بالغة المهانة والانقياد والمتاجرة. ولم يكن أبو مازن من هؤلاء ولا من أولئك، بل لم يكن أحقر في عينيه من هذين الصنفين من الناس. كان الشعر لديه دلالة جمالية، والجمال لا يستقل عن الحرية، ولا وجود له بلا حاسة إنسانية، وفضاء تواصلي، فلا أحد يستطيع إرغام أحد على الشعور بالجمال، وليس لغير الإنسان طاقة تذوق للجمال وتفكير فيه، وليس لمن يتذوق الجمال أو يصنعه وجود مفرد. وهذه خواص أصبح الجمال بها قيمة عليا شارطة ومشروطة في الوجود الإنساني، أعني أنها تتبادل دلالة القيمة مع قيمتي: الحق والخير. فالشر والباطل هما قرينا القبح الذي يشرطهما في القيمة ويكون مشروطاً بهما.
لقد كان «حارس الكلأ المباح» - الذات التي تعنون أول دواوينه - دلالةً جماليةً خالصة لتمثيل رؤيا الشعر لديه. وهي دلالة تنبع من المفارقة بين «الحارس» الذي ينتمي دلالياً إلى المحافظة والمنع والمراقبة، و»المباح» الذي ينتمي إلى ما هو بالضد من دلالة الحارس، إلى المسموح والمُجَاز والحلال والعلني والمكشوف والعام وغير المحجوز أو المحظور. وإضافة الحارس إلى المباح أو تسليط فعل الحراسة على المباح، لا يجعل الحارس هنا بلا وظيفة بسبب انتفاء الجمع بين المنع والإباحة، والحراسة والانتهاك، بل يصعد بوظيفة الحراسة تلك إلى دلالة غير نفعية وغير منطقية، دلالة تصنع الدهشة - كما هي صناعة كل دهشة - من معدن المفارقة، وهي مفارقة تصنع سؤالاً عن الحاجة إلى حراسة المباح، فلا نجد الإجابة على ذلك إلا في دائرة الشعر والفنون، دائرة الجمال (وهو عموم إنساني) يتبادل مع الحرية (وهي لازم المباح) الاقتضاء. هكذا أراد الدكتور صالح أن يمثل رؤيا الشعر لديه، بحارس الكلأ المباح، وهي صفة الشاعر التي تجعله حارساً للجمال والحرية.
ولا تستقل حراسة الجمال والحرية، المترتِّبة على حراسة المباح، بتشخيص الذات الشعرية نصوصياً لدى شاعرنا، بل تتجاوب وتتوازى - بالطبع - مع مشخصات أخرى مختلفة لكنها متماثلة في التباعد بالذات الشعرية النصوصية - كما هي كل ذات من هذا القبيل - عن الذات التاريخية المتمثلة في الشاعر نفسه. وأحد مشخِّصات هذه الذات هو غدر الواقع بها ومخاتلته إياها بالطعنة إثر الطعنة، وهي مخاتلة تزداد فجائعيتها وتعظم صدمتها، في القصيدة المعنونة «أحبابي» (الأعمال الشعرية ص323) التي تنبني في نفس سردي، تحكي الذات الفاعلة في النص بضمير المتكلم فعلها وهو فعل شعري خالص، أي فعل لصياغة الواقع صياغة جمالية، وخيالية وحالمة. ويتكامل فعل الذات الشعرية هنا مع الذوات المتجاوبة معه، تلك التي تجتمع في الصفة وفي الإضافة إلى المتكلم في عنوان القصيدة «أحبابي» لأنها تتفاعل مع صنيعه إيجابياً، ويجد فيها مدد المعنى الذي يشد أزر شاعريته ويدعم صموده.
لما تعامدت الجهات عليّ، وانطبق الفضاء على انفتاحي.
سافرت في لهب الهجير أدير صحرائي على شعري،
وأنسج من خيوط الرمل قافيتي،
وأسكب للسنابل عزف ساقيتي وموسيقى رياحي.
ورسمت أحبا بي نخيل كرامة آوي إليها حين يشتد الزمان،
وتنطفي عينا صباحي
كانوا تضاريسي الحزينةَ كلّها،
من ماء غيمتهم أشكّل طين أوجاعي،
وأسبح في جراحي.
فالذات هنا في مواجهة آخر، وبهذا الآخر تنجلي خاصية ذاتها في سطور القصيدة. إنها ذات مستقرة في ضمير المتكلم الذي ينضاف إليه ما يمتلكه: «انفتاحي، شعري، قافيتي، ساقيتي، رياحي، أحبابي، صباحي، تضاريسي، أوجاعي، جراحي» وإذا تأملنا المضاف في هذه الإضافات المتكررة إلى ياء المتكلم، وجدناه دالاً على الشعر، على الرغم من تعدد وتنوع المادة الدلالية عليه فيها. وليس التنوع أو التعدد هنا سوى صفات الشعر ودلائله المختلفة على سبيل المجاز، وهي دلائل وتسميات يغدو الشعر نفسه - بتسميته هذه - إحداها، بحيث يتبادل مع الصفات والأسماء الأخرى الإبدال والإحلال. لكنه تبادل يعدِّد صفة الشعر ودلالته، ومن ثم تجتمع به للذات الشاعرة خصائص ملحمية، هي الانفتاح بدلالته على التطلع والمجاوزة والإشرئباب، وهي القوة والنور وصعوبة المرقى ومعاناة الجراح والأوجاع، وهي الأنصار والأحباب أي الجمهور الذين يجتمعون على الشاعر بجامع مشترك بين البطولة والجمال، والعبقرية والنبوءة.
هذه الذات الشعرية، فيما ترينا القصيدة، ليست مستقلة أو مفردة، بل هي في مجابهة وتصدٍّ، أي في قبالة آخر يقوم في القصيدة بدور التعريف للذات وإكسابها صفاتها المائزة. وبوسعنا أن نجد هذا الآخر في قبالة ضمير المتكلم وبالضد من ممتلكاته التي عيَّنتْها الإضافات السابقة، فضمير المتكلم لا معنى له إلا لوجود ضمائر دلالة على الآخر الذي يختلف عن أناه ويحدد ذاتيته. لكن القصيدة ذهبت أيضاً، إلى تمييز الذات الشاعرة وفقاً لموقفها النضالي وما تجابهه، والذي تجابهه يتعيَّنُ في عدد من الدوال التي تجتمع على دلالة الحصار والظمأ والعقم والجفاف: «الجهات، الفضاء، لهب الهجير، صحرائي، خيوط الرمل، الزمان». إنها دلالة المرغوب عنه، تلك التي تتعرف الذات الشعرية وفعلها في مرغوب فيه مغاير له، وعلى الضد منه، لكنه ليس مرغوباً فيه خاصاً بذات الشاعر، ولاستهلاكه، فالشاعر يقوم بدور التضحية والبطولة، ويتحمل الأوجاع والجراح من أجله، أما مؤدَّى هذا الدور وقيمته فإنها تجاوز الشاعر إلى ما يخلقه من أفق تتكثَّر فيه ذات الشاعر وتتعدَّد، أي تغدو ذاتاً اجتماعية في مسافة الوعي المتجاوبة مع الرغبة التي يصنعها الشعر.
لكن دعوى النص وهي هنا بمثابة الحدث الخارق لسكونه، ليست في ذلك كله، بل في تحول تضحية الشاعر وبطولته إلى جُرم، والتألُّف حوله إلى الافتراق عنه، وأحبابه إلى أعدائه. وذلك في الوحدة الدلالية الأخيرة من النص، التي تأتي هكذا:
كانوا... وكنت
لكنه لما استدار الوقت لم أجد الذين حملتهم قرنا على ظهري
ولم ألقف لهم...
ووجدتُ في ظهري رماحي
أدركت من لون الدماء، ومن مذاق الجرح
أن الأهل باعوني،
وأن أحبتي كسروا جناحي.
وهذه رمزية تؤدي فيها الذات تمثيلاً على الموقف الشعري، أي الموقف الإبداعي الذي هو بالضرورة موقف اختلاف وتفرد. وإذا كانت قيمة الإبداع هي في تفرده واختلافه فإن الحرية شرط في كينونة الذات الشاعرة، والمبدعة بشكل أعم. أعني أن هناك تشاركا وجوديا بين الحرية والشعر، بحيث لا يمكن الفصل بينهما. فالعدوان على الشاعر، فيما تحكي القصيدة، هو عدوان من ذاته على ذاته، لقد باعه أهله، وكسر أحبته جناحه، ووجد رماحه تنغرس في ظهره! هكذا أصبحت حاجة الشاعر إلى الحرية هي حاجة إلى التحرر من ذاته، فالذات كما صورتها القصيدة هنا هي ذات تتبادل فعل القهر مع ذاتها، لتنتهي إلى الاغتراب والذل والمحاصرة.
وتتخذ الذات المقهورة في الاتجاه نفسه - اتجاه التضحية في مقابل غدر الأحباب - مدلولها في شكل التلبُّس بشخصية أخرى، وهي في قصيدته المعنونة «عنترة في طبعته الجديدة» (ص ص 303 - 305) شخصية عنترة العبسي، شاعر الحب والفروسية في الخيال العربي الممتزج بالتاريخ، فيصنع شاعرنا فيها ما اصطُلح عليه في النقد الحديث بـ»القناع» أي أنه ينطق عنترة بخطاب مزدوج بين صوت الشاعر ومرجعيته الذاتية، وصوت عنترة ومرجعيته التاريخية والرمزية، لكن بما يمزج بين الصوتين وينتجهما في مركب جديد، كما تمزج الاستعارة - فيما رأى ريتشاردز - بين شيئين، فيكون معناها هو محصلة تفاعلهما. وانتقاء عنترة هنا دون غيره من الشعراء يترجم الرغبة في الدلالة على العلاقة بين فرد الشاعر وجماعته الثقافية، الجماعة التي تنتقصه فيَفِي لها، وتغتابه فيحميها، وتهزمه فينتصر لها، إنها دلالة أخلاق أمام القِحَّة، ودلالة بطولة أمام الجبن، وتسامٍ أمام القهر. وإلى ذلك فدلالة العاشق في شخصية عنترة هي دلالة إيروسية، دلالة محفوفة باللذة والجمال والحلم والبشارة، تلك التي تؤشِّر إلى ما تصير به الحياة مادة للرغبة وموضوعاً يستحق العناء. وقد مزج شاعرنا بين هذين الجانبين في دلالة عنترة لتتلبسهما ذاته المبنية في القصيدة التي استحالت إلى عنترة بالقدر الذي استحال به عنترة إليها؛ فكانت «عبلة»، موضوعُ العشق، شهادةَ القيمة الإيروسية ودلالتها على الشاعر الذي يصنع لذة الحياة وبهجتها، وكانت «البلاد» موضوع الواجب، أو موضوع «الوجود - مع» مرادف عبلة في تعلق عنترة بها وأحلامه وعذاباته تجاهها:
«لعبلة» والبلاد هوى قديم
وعبلة والبلاد هما بلائي
وعبلة كنز أفراحي وحبي
فعبلة لم تكن إحدى النساء
أما نهاية عنترة الذي آل إليه شاعرنا في قصيدته هذه، أو آل عنترة إليه، أو آلا معا إلى ذات ثالثة يجتمعان على تكوينها في القصيدة بما لا يشبههما خارجها إلا شبهاً جزئياً، فهي مواجهة إحسانه بالإساءة، ووفائه بالغدر؛ فبلاد الشاعر تبيعه، وعبلة تشطبه وتمحو ينابيعه. إنه يقف موقفاً أليماً في نهاية القصيدة، يتساءل:
لماذا تقطعون يدي وكفي
مخضبة الأصابع من ولائي
ولكنه لا يستسلم أو يضعف، ولا يستحيل الغدر به إلا موقف ثأري يعني شخصه، بل إلى موقف شعري يصنع الأغنية العذبة والأفق الجميل. وهذه صورة تترامى بالمعنى الشعري إلى ما يجاوز القيد إلى الحرية والظلام إلى النور والعنف إلى السلام والكراهية إلى الحب. وهي إذ تحيل على ذاكرة رومانسية شديدة الحضور في الشعر بوصفه تأشيراً إلى الفردي ودلالة تعبيرية تفيض بالأنا، فإنها تحيل على واقع شديد المحاصرة للفردي والجمالي وشديد الوطأة على الشاعر. لكن المهم هنا هو أن الذات المقهورة للشاعر كما بدت أعلاه ذات قوية الحضور في شعر الدكتور، ولكنها لا تلغي صوراً أخرى للذات مناقضة لها أو متجاوبة معها. فالذات المنتصرة مثلاً التي تؤشر إليها قصيدة «بهية» (ص 344) لم تكن منتصرة إلا لأن بهية نهضت، وقد نفهم في هذه القصيدة الإسقاط على حدث تاريخي معاصر معروف عربياً، بحيث انبنت الذات على صياغة الحدث من وجهة النظر التي تغدو دلالة على الذات، فالقصيدة منتشية وفرحة لأن بهية نهضت.
وختاماً فإن شعر الدكتور صالح أشد استعصاء على القولبة والأدلجة لأنه يتوق إلى الحرية ويدلل على الطموح الذي يعاكس تأصُّل الرغبة الإيديولوجية في تثبيت الزمن والانشداد بقيده، وهو - أيضاً - ليس شعراً طوباوياً تختصره نتيجة محدَّدَة وتقرِّره نقطة معينة في المستقبل.