Saturday 08/11/2014 Issue 450 السبت 15 ,محرم 1436 العدد

سعد البواردي

استراحة داخل صومعة الفكر

08/11/2014

يا أمة الحق

عبدالرحمن العبيّد

295 صفحة من القطع المتوسط

يا أمة الحق هذا عنوان ديوان كانت البداية مشبعة بنداء صارخ يستصرخ به أمة الحق.. كل أمة الحق.. لأن الحق أحق أن يتبع.. اجتزئ بعضاً من مناشدته ومناداته:

يا أمة الحق ما أشجاكِ أشجانا

وما يسرك سرَّ القلب جذلانا

لا عذر للحر إن كانت عقيدته

عذر لمن مات لا عذر لمن هانا

إني أحب كريم النفس معتصما

بالله. ملتمساً عفواً وغفرانا

كلنا ذلك الرجل يا شاعرنا.. فأين المزيد؟

يا أمة الحق والآمال ترمقنا

والفجر يرقبنا. والليل يغشانا

ما للجهاد وأدنا فيه ألوية

وللميادين عطلا من سرايانا

أنتَ تتساءل وعلينا الإجابة بصدق. الجهاد في عرفه شرعة القانون الوضوعي لا الشرعي تحول إلى تهمة تُحاسب عليها.. بتنا نتجنبه خشية عن تداعياته كي لا تطالنا بأذى.. رغم أننا أبرياء من تلك التهمة.

يا أمة الحق والإسلام ميزنا

تفنى الحياة وما تفنى مزايانا

ما زلت فوق جواد الشعر ممتطيا

أرنو لملحمة التاريخ ميدانا

كلنا نرنو.. ونأمل أن تنقشع الغمة عن سمائنا.. وتشرق شمس الحرية على عالمنا المسكون بتوحشه وهمجيته.. شاعرنا العبيّد حاور التاريخ ماذا قال له.. وماذا قال عنه؟!

يا فارس الحب في باقات أشعاري

ويا مفجر شجوي بين أفكاري

ويا مجدد أحلام الربيع بما

وهبتَه من شذا نغمي وأزهاري

مهلاً أما عشتَ بالآمال تسعدني

فكيف ترضى بإيلامي وإضراري؟

وكيف تأسر إنشادي وعاطفتي؟

وكيف تجتاز أعماقي وأسواري؟

أما رأيت جراحي اليوم دامية

فكيف تهوي بسيف منك بتار؟

إلى أن يقول:

أبكي على أمتي ضلت مسالكها

وعندها الحق يسري فيض أنوار

تحدث عن القدس.. وجرح لبنان. والنار في أفغانستان.. عن هولاكو القديم.. وكل هولاكو جديد.. طرحها شكوى صارخة أمام ضمير التاريخ.. التاريخ وعاء لا ذنب له.. الذنب لأولئك الذين يفرغون في إنائه إحباطاتهم وإسقاطاتهم.. ومن مقطوعته «سقوط الحضارة» أجتزئ هذه الأبيات:

هي الحضارة ما زالت مهددة

تشكو السقوط. وتبغي من يواسيها

فارفع لواءك خفاقاً يعيد لنا

حضارة بالهوى والحق تحيينا

ضراعة إلى الله أن يحفظ لأمتنا حضارة الحق. والإيمان والهوى.. وقد آلت الحضارة الغربية المادية إلى الأفول.

وعن «جيل الحجارة» يقول:

مرحى لأعزل يلقى الموت مبتسما

وحوله البغي. بالإرهاب يفتخر

مرحى لوثبة شعب في انتفاضته

يروي. وينشر للأجيال ما ستروا

جيل الحجارة كم أثلجت أفئدة

فأنصت الكون وازدانت به السير

أزلتَ عنك لجام الخوف فانطلقت

هموم قلبك كالبركان تنفجر

عزّ السلاح فخضت اليوم ملحمة

تدمي الذين زجرناهم فما ازدجروا

كانت هذه حكاية الأمس.. يومنا يا شاعرنا يتيم وعقيم.. وأليم الواقع والموقع والمحصلة.

«من هؤلاء؟» سؤال.. لا نتملك له جواباً قبل أن نقرأ:

مَن هؤلاء حياتهم أتراح؟

تبدو عليها لوعة وجراح؟

مَن هؤلاء تشبثوا بمبادئ

تحكي السرابَ.. بريقها لمَّاح

فإذا غفو تلهو بهم أحلامهم

وإذا صحو يلهو بهم سفاح

مَن هؤلاء تمزقوا في ذلة

وحماهمو للطامعين مباح؟

هو نفسه عرفنا عليها. أو على بعضها.. وكفانا شر القتال: أي السؤال:

يا للشعارات التي في زيفها

تغزو الديار. ونارها تجتاح

كمبادئ «الماسون» في تضليلها

والكفر فوق جبينها بواح

لم تخش إسرائيل من قومية

هي مبدأ في زيفه ملحاح

يا عزيزي.. بعض مما ذكرتَ.. وآخرون غيرهم لم نأت على ذكرهم.. إنهم كثر.. «دم الشهيد» فيض من أشجانه هز كيانه.. وفجَّر خاطره وبيانه:

أرنو إلى ذاك الفتى متوجعاً

يشكو من الآلام والأشجان

أضناه موطنه الجريح مكبلا

في قيده قد ضاق بالسجان

لم يبق من دنياه إلا خيمة

راحت تصاحبه بكل مكان

يهفو لسعدة. ما تزال صبية

وكلاهما بالأمس من دون ثمان

يتسابقان كأنهم في حقلهم

طيران قد عجزا عن الطيران

ملاحظة «يتسابقان» مثنى. وكأنهم جمع.. الصحيح «يتسابقان كلاهما» ويعني الأطفال المشردين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت.. وضجت بهم السبل.. فما من ملجأ آمن للاجئ يتملكه الخوف.. ويتهدده العري. والظمأ. والجوع.. والتشرّد..

«اليتيم» أثار مشاعر شاعرنا العبيّد.. اختص به بعضاً من قصيده:

قف. وانظر البؤس يسري في مشاعره

على مساء تتيت الفكر حائره

فقلبه الغض يشكو من مواجعه

والدمع كالحجر يجري في نواظره

يلهو بماضيه رفافاً فيوقظه

جرح ألمَّ به. أودى بحاضره

حتى إذا ازدحمت أشجانه سقطت

دموعه تتهادى من محاجره

مات والده فلفته عباءة الوحدة والوحشة:

أبي رحلتَ فعاد البيت أرملة

ثكلى. وعاد أسيراً في مظاهره

إنه نفسه يتحدث:

أبي رحلتَ فأمي في توشحها

على سواد كبير الطرف غائره

سواد كبير الطرف توصيف غير ملائم.. أبدل مفردة كبير بـ كئيب الطرف.. ونكمل حديث اليتيم

لمَ الغياب. وهذا الليل يا ابتي

أدمى خطانا بشوك من غدائره

ومن يتيم بلا حب. إلى بطاقة حب لمدينة فتن بها وأحبها:

يا قلب غرد. وهات الشعر صداحا

واسكب قصيدَك معطاراً وفواحها

وراقب الزهر يزهو في خمائله

أشجاه لحنك إبداعاً وإفصاحا

هنا الجمال الذي يغريك منظره

يظل بالروح والريحان نفاحا

أكرم بها «الباحة» المعطاء عانقها

من الشذا ما أراح الهم فانزاحا

نزلت فيها على روض وساقية

توحي لنا الشعر لماحاً ووضاحا

وها هو أعطى شعره لماحاً. ووضاحاً.. ومن الباحة حيث استراح.. إلى «أبها» البهية ودَّعها شعرا:

ودَّعت أبها. وطاقات الرياحين

وهاتف الشعر أُغريه ويغريني

عهدته جامحا إن جئت أطلبه

وها هو اليوم في أبها يناجيني

يا قلب غرَّد. وهات الشعر في وله

فالحسن يأسرني والشعر يسبيني

ودعت أبها وكم رفَّت نسائمها

«يا مرحبا ألف» جاءتني تحييني

فقلت ماذا سأهديها وأمنحها

التمر من هجر؟ أم مسك «دارين»؟

أم باقة من رياض الشعر صادقة

وصادق الشعر من أقوى البراهين؟

فقلت أمنحها شعري. أبوح به

مجنح الشوق يرضيها. ويرضيني

منحها من شوقه في سخاء.. ومن شعره في وفاء وصفاء يشكر عليه.

شاعرنا العبيّد عرفنا بتجربته بعد أن وقف مشدوداً إلى ورقه يسائل نفسه من أين يبدأ.! وبدأ.

عن السنين التي مرت وكنت بها

أهوى القراءة حتى ملني أرقي

عن الدموع التي تنساب من قلم

يسير من غسق واه إلى غسق

عن خواطره التائهة الهائمة حول صحائفها.. عن الفكر المشتت كيف يستجمعه.. أخيراً

حتى اهتديت إلى علم وجدت به

معنى الأمانة في قلبي وفي عنقي

أي علم اهتدى إليه العبيد؟ مجموعة عناوين لمجموعة قيم حددها.. منار يضيء الدرب لسالكيه.. وصراط مستقيم يشرف به سالكه.. وحصافة رأي تكشف مواطن الخطأ.. ودعوة صادقة للحق.. تلك هي العناوين التي اصطفاها شعاراً ودثاراً لتجربة حياته.

ومن التجربة إلى العيد.. ولكن اي عيد؟!

أطل العيد في ثوب جميل

يطوف على الروابي والسهول

وجاء الحب يغمر كل قلب

يبدد قسوة الهجر الطويل

فأسفر في صباح العيد وجه

ووجه فيه أذن بالأفول

وكم قلب تأوه في صباح

وكم دمع تهامى في أصيل

وكم بالعيد من بيت سعيد

تذكر فاستحال إلى عويل

مفردة «تذكَّر» هنا غير مفهومة وغير مناسبة.. الأنسب كلمة «تغير».. لكل هذا التعريف المتراكم المشحون بالتناقضات اختار العيد الذي يرنو إليه.. ويطمح فيه:

فقلت ومهرجان العيد حولي

أليس إلى التعاون من سبيل؟

وكيف العيد والمأساة فينا

تجدد نكبة الجسم العليل؟!

ذاكرته أعادت إلى ذهنه حال الجياع والمشردين والبؤساء في أكثر من مكان.. أدرك عن يقين أن لا عيد مع البؤس.. ولا فرحة مع الظلم.. ولا ابتسامة مع الحزن. العيد كما يراه عيد الناس كل الناس سواسية في الفرحة.. هذه المرة لا يريد لأحد أن يسأله.. ومع هذا لا بد من سؤاله.. وعليه أن يجيب إذا كان يملك الإجابة.

لا تسلني كيف ألهبت الصداحا

فاق في الناس سيوفا ورماحا

لا تسلني.. رُبَّ قول صادق

قد أحال الشعر نبضاً وكفاحا

يستثير العزم في دعوته

ويداوي القيم فينا والجراحا

ولكنه أعطى الإجابة تلميحاً حيناً.. وتصريحاً حيناً آخر، حيث قال:

لا تسلني أمتي أرهقها

في تغاضينا حماها المستباحا

والزعامات التي تلهو بها

تنشر التضليل والكفر البواحا

لا تقل يا صاح إن الشعر قول

كم أثار الشعر والقول السلاح

بعد كل هذا لن نسألك:

شاعرنا العبيّد تغنى ببلدته الجميلة القديمة «الجبيل» غنى لها شعراً:

أنا يا بلدتي لثمتُ هواكِ

وعشقت الجمال في مغناك

فضياء الصباح يغمر قلبي

هو لو تعلمين نفح صَبَاك

ونشيد المساء عانق حلمي

ففدا الحلم قبسة من سناك

«قبسة» صحيحها «قبس» لا تأنيث في المسمى.

يتابع ولهه وعشقه لبلدته القديمة:

قد رأيت الجمال في كل روض

غير أن الجمال ملء حماكِ

يسرح به خياله بين شواطئها.. وأشرعتها.. وبحرها.. والغواصين.. واللؤلؤ.. والصفاة. وأزقتها الضيقة.. وهدوئها.. ومراتع الطفولة.. كلها جالت في خاطره.. زادته تعلقاً بها وحباً لها..

أنا يا بلدتي أتيتكِ أهفو

للشباب الضحوك فوق رباك

فاحفظي العهد يا رفيقة عمري

إن طوى الدهر صفحتي.. أو طواك

ويختتمها بهذا البيت المشحون بالمشاعر:

عجباً جئت شادياً لمغانيك

لعمري. أو راثياً متلباكي

كلمة متباكي غير مفرحة.. الأفضل أن يأتي الشطر:

لعمري. أو راثياً لكِ باكي

عن مأساة البوسنة والهرسك كانت له شكوى:

حَكَم القضاء.. ونُفذت أقدار

وتسعّرت بالمسلمين النار

وعلا الصليب على المآذن. واعتلى

فوق الغثاء الضائعين العار

صبراً سراييفو بأي جريرة

يُغتال شعب مسلم؟ وديار؟

شنت عليه الصرب حرباً يكتوي

بلهيبها الفضلاء والأحرار

ليت شاعرنا قال نسبة إلى شطره قبل الأخير «واكتوى» بدلا من يكتوي.

كم طفلة تدمي الفؤاد دموعها

ويتيمة أودى بها الفجار

وصبية ضمت ضفائر شعرها

تجتزها في قسوة غدار

لم تدر اين تفر. حتى ساقها

وغدٌ. وأدمى قلبها أشرار

أبيات جميلة ومعبرة.. لها ما بعدها:

صبراً سراييفو فكم من محنة

تسري بها الأنباء. والأخبار

صبوا على المدن العريقة حقدهم

لهبا. وإن حل المساء أغاروا

كم دمروا من منزل.. واستهزأوا

في مسلم. وتهدمت أسوار

«اشتهزأوا في مسلم» تعبير غير مقنع.. أرى إبدال في مسلم بكلمة «أناسه» وأهله أنها أنسب.

ومساجد تشكو مظالم أمة

فجعت بها الصلوات والأذكار

في كل يوم ذلة يسقى بها

قومي. وجرح نازف. وصغار

في بيتك الأخير ما يغنيني عن الكلام.. أخيراً مع آخر محطات رحلتنا عبر الاستراحة مع شاعرنا الصديق عبدالرحمن العبيد عبر ديوانه «يا أمة الحق» ومن خلال مقطوعته «المحاورة الأزلية» ماذا عنها.. وماذا قال؟

غرد بشعرك شنّف الآذانا

واعزف لعشاق الهوى ألحانا

واسكب نشيدك طاقة فواحة

أهدت إلينا الفلَّ والريحانا

أوَ ما رأيتَ الطير يشدو حالها

غَرِدا. يثير الروح والأفنانا

لو كنت مكانه لغيّرت الشطر الأخير على النحو الآتي: غردا يثير الفرح والأشجانا.. الدوح لا يثيره شجو:

ما للقصيد. وللمبادئ كبَّلت

ذهنا فجئت تحرر الأذهانا؟

ما للقصيد. وللشيوخ تجللوا

بالموت لم يجدوا لهم أكفانا

لا أحد يتجلل بالموت يا عزيزي.. الصواب بالعري.. كثيرون من البشر يعيشون عراة ويموتون وهم عراة لأنهم لا يملكون ما يسترون به سوءاتهم.

يا من يحاورني بنغمة عابث

إني أقيم لحجتي برهانا

أنا شاعر سكن الجهاد بشعره

مذ واجه الإلحاد والطغيانا

أو ما ترى جرحي يمزق أمتي

تلقى به في العالمين هوانا؟

قل للذين تقاعسوا واستسلموا

ما هكذا داعي الهدى أوصانا

بهذه الوصية تنتهي الرحلة.. وعلى موعد بإذن الله.

- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338