في رواية «ربّ إني وضعتها أنثى» تنقلنا نردين أبو نبعة إلى شاطئ غزة لتحكي لنا من هناك وعلى لسان ثلاثة أبطال يتناوبون السرد حكايا الغربة والأسر في سجون الاحتلال وحكايا العودة إلى أرض الوطن. الرواية تتحدث عن الطفولة المنفية التي عاشت في أرض سبخة مالحة لكنها استطالت واستطاعت أن تستطيل وتمتد لتصل إلى أرضها وتحكي تفاصيل زيارتها لغزة وتفاصيل غربة أبيها وحكايا الزيتون والبرتقال. نستطيع أن نقول إن الرواية حقيقية مظفرة بالخيال. فرواية نردين أبو نبعة تجيب عن الكثير من الأسئلة والاتهامات التي تلاحق الفلسطيني مثل (هل باع الفلسطيني أرضه؟). فقراءة الرواية تغنيك عن قراءة العديد من المراجع التاريخية عن القضية الفلسطينية، لأنها توثق لأحداث رهيبة أحداث الشتات والتهجير القسري.
عندما تقرأ الرواية ستقرأ عذابات الفلسطيني في الغربة ومعاناته .. هذه الرواية تحكي تاريخ شعب مات ألف مرة لكن الحياة والإيمان بالحق انتصر في داخلهم. لغة الرواية غنية بالحوارات العامية الفلسطينية.
«الثقافية» تنقلكم لعمان حيث نردين وحيث هذا الحوار مع المفردة والمعنى والإبداع.
كيف ولدت هذه الرواية؟
- الرواية كانت تتشكل داخلي وتتراكم عناصرها بوعي مني وأحيانا بلا وعي ولسنوات طويلة كانت الأحداث والحكايا تتخمر.. فلما لاحت لي غزة ووطأت أرضها ما كان مني إلا أن أنصت لهدير بحرها ولنسائها وشبابها ونسائها كتبت كل ما قالوه.. كنت أركض وراء كل حرف وكلمة ودمعة وشهقة أدونها!!
قبل ذلك كنت أستمع لأبي وعمي.. أسمع حكاياتهم وعاداتهم وقطفهم للزيتون وأعراسهم.. سفر والدي وغربته.. تجربة عمي في الأسر.. تعرفت على المكان وأهله قبل أن أراه.
تراكم ما كان يحكيه والدي وعمي لي مع ما رأيته في غزة لتحرج هذه التوليفة التي تسمى رواية.. فالرواية تشبه حوت سيدنا يونس تبتلع كل ما تراه وتبتلع كل الأجناس الأدبية وتعبر عما في دواخل البشر.
روايتي حصيلة الذاكرة الخصبة التي رواها لي أبي عن تجربته وغربته في المنافي وحصيلة الزيارة التي قمت بها لغزة، وأيضاً هي حصيلة الخبرات والأحداث والمشاهدات والقراءات.
* هل هناك صعوبات واجهتك أثناء كتابة الرواية خاصة أن هذه هي الرواية الأولى لك؟
- من الصعوبات التي واجهتها أنني كنت أخشى في البدء من كتابة رواية.. ولا سيما أنني كتبت القصة القصيرة فقط.. هذا النسيج الذي يسمى رواية كان يغريني كثيراً ويخيفني في نفس الوقت فأتراجع في اللحظات الأخيرة.. ولا أخفيك سراً أنني لم أتجرأ على كتابة الرواية إلا عندما تقدمت بالعمر قليلاً.. ونضجت تجربتي. من الصعوبات التي واجهتني كانت هناك فراغات وفجوات معرفية لا بد أن تُملأ فعندما قال لي والدي أن المدرسين الليبيين سألوه لماذا بعتم أرضكم؟ لم تشفني إجابته وأخذت أبحث في الكتب والمواقع الإلكترونية الفلسطينية والمراجع عن إجابات تشفي غليلي وتكون صادقة وحقيقية.. فكتابة الرواية جعلتني أبحث وأتعلم الكثير عن قضيتي.
* روايتك اسمها (رب إني وضعتها أنثى) عنوان جاذب.. ما سر التسمية ؟
- عندما وطئت أرض غزة شعرت بدور المرأة الكبير في صناعة النصر والتمكين ودفع أبنائها للشهادة. عاينت قصة مريم الفرحات مع عماد عقل، وقصة الفتاة الفلسطينية مؤمنة تلك الفتاة التي انتظرت خطيبها لسنوات وهو في الأسر وقالت بصوت عال إن تخليت عنه فقد تخليت عن القضية وعن الأسرى وعن فلسطين بأكملها. زرت بيت أشرف مشتهى الشهيد والتقيت زوجته وأطفاله شعرت بتلك القوة التي تمتلكها تلك المرأة التي لم تكن ترسم لحظة استشهاده على أنها لحظة فاجعة أو لحظة غياب وخوف وخسارة، بل كانت ترسم تلك اللحظة بألوان قوس قزح.. تشعل شمعة جديدة بميلاده لا بموته!!
التقيت بأم حسن سلامة تلك الختيارة الفلسطينية التي يشع وجهها نوراً.. كنت أتوقعها صارمة.. جدية قد لونها الحزن بظلاله لم أكن أتوقع أن أرى عجوزًا آسرة الجمال والروح طيبة وصدرها واسع بوسع عمرها الممضوغ بالغياب.. قوية زغردت لنا عندما دخلنا بيتها وقالت لنا هذي يا حبيباتي زغرودة زغردتها عندما زرت حسن في السجن ،ولما زغردت كل المساجين كبروا واليهود شردوا - أي هربوا - من الخوف يومها قال لها اليهودي : إنتِ هون أخطر من حسن سلامة !!
من يقرأ الرواية يشعر بدور المرأة الكبير.. امرأة عمران المرأة المقاومة الأولى التي ذكرها الله في القرآن رأيتها في غزة.. امرأة عمران تمنت أن تنجب ذكرا لتحرر بيت المقدس.. .ولكن الله رزقها بأنثى وكأن الله يريد منا أن نكتشف سر ذلك، وهو أن المرأة قادرة على النصر والتغيير وليس الذكر وحده هو القادر على صناعة النصر والتمكين.
* نهاية الرواية كانت مفتوحة.. لماذا؟
- أنا اخترت رواية أدرت فيها ظهري للنهايات المألوفة التي تبتدئ ببداية مألوفة وتنتهي بنهاية تقليدية وكأنها تسير على خط مستقيم لا دهشة فيه.. لا أحب النهاية المألوفة التي تنتهي بتوتة توتة خلصت الحدوتة.. .فأنا قفزت فوق هذه اللازمة..
هذا السبب الأول لهذه النهاية غير العادية أنهيت الرواية بمشهد البرتقال الذي قطفه أبي يوماً ما في ليبيا وتدحرجت ذات البرتقالة لأقطفها أنا في غزة، وكما قلت في الرواية.. لقد توغلت في الربط بين ذاكراتين.. الكثيرون سألوني ما مصير عباس قلت ما زال في غربته وما مصير أبي رجا قلت ما زال في أسره كحال آلاف الفلسطينيين.. فهذه أحوال كل الفلسطينيين التي لم تنتهي لأن الاحتلال لم يزل.
* من الانتقادات التي وجهت للرواية هذا الانتقال من شخصية إلى أخرى مما يجعلها غير مترابطة؟
- قد تبدو هذه الرواية غير مترابطة وكأنها مجموعة حكايات تتداخل في بعض الأحيان وتتداخل في أحيان أخرى.. لكن في الرواية خيط رفيع شفاف ولا بد للقارئ أن يبذل جهداً لكي يحتل مكانة لا تقل عن مكانة الكاتب والأبطال، يغوص في النص ويكتشف الأسرار ويربط الخيوط.. .أشعر بضرورة أن أترك بعض الخيوط لكي يرتبها القارئ لأن الإيضاح الزائد يفسد متعة الحكي والقص!
* كنت تكتبين للطفل ولك من الإصدارات ما يزيد على 25 قصة.. منها قصة «بنطالي مبلل» التي طبعت منها عشرون ألف نسخة وفزت بجائزة تقديرية عن قصة سر الدراجة في مسابقة العودة 2011 لماذا تكتبين للطفل؟.. وما سر التنقل من هنا لهناك؟
- الكتابة للطفل صعبة وتحتاج لصبر وجهد وتثقيف وقراءة ومعايشة كل ما يخص الطفل، والكتابة للطفل تحتاج للرشاقة والخفة والتبسيط الذي لا يصل للتسطيح ويحتاج إلى شخصيات طبيعية ليست نظيفة ولا معقمة، فكثرة التعقيم تؤدي لعقم الفكرة وعدم تفاعل الطفل معها.. كتبت للطفل لأننا إذا أردنا أن نغير الكثير من سلوكياتنا ونقضي على أمراضنا الاجتماعية والفكرية لابد أن نبدأ من الطفل.. أما عن سر التنقل فهذا يتبع الحالة التي أعيش والحدث.
تعملين في المجال الإعلامي كمعدة ومقدمة برنامج (حكايا وعبر) وهو برنامج قصصي أسبوعي ما رأيك بالإعلام وما علاقة الإعلام بالكتابة؟
- العمل في الإعلام هو الأقرب لطبيعتي ككاتبة وروائية ولا أتصور نفسي في أي عمل آخر غير الإعلام.. فالعمل بالإعلام يجعلني على صلة بالهم اليومي والوطني ويعطيني شعورا بالمتعة وعدم النمطية والتجديد، لكن العمل في الإعلام له سلبياته فهو يفرض علينا مساحات معينة لا نستطيع تجاوزها وليس فيه مجال لرغباتنا الشخصية وطقوسنا الخاصة.. لذلك تبقى الكتابة هي الملاذ النهائي الأجمل والأروع.
الأحداث المؤلمة تجعل الحياة صعبة لكن عندما نتخفف منها بالكتابة تصبح محتملة كيف تعيشين هذا الاحتمال؟
- هذا المقطع يعبر عن حالتي تماماً.. وعندما كتبته كنت أوقن بأن الكتابة علاج لحالات تبعثر الحكايا وازدحامها في رأسي.. عندما بدأت بالكتابة بدأت روحي تتعافى.. كنت كلما كتبت سطراً أشعر براحة عجيبة.. كلما كتبت تبدلت الريح الساخنة التي تلسع رأسي بنسمات باردة رائقة منعشة.. الكتابة لها مفعول السحر فعندما نكتب نرمي أوراقنا الصفراء الجافة ونشعر بالرشاقة وكأننا ولدنا من جديد.. يمكن لأننا سنحمل أوراقاً خضراء جديدة تبشر بريبع جديد!!
تراب الوطن عالق في حروفك إلى أي مدى سيظل هذا التراب عالق في روحك؟
- القضية ليست قضية تراب نعشقه أو يتعلق بحروفنا.. .القضية ليست قضية تراب أو عرق زيتون نعشقه يكبر بلمسات أيدينا إنها قضية وجود وعقيدة ومقدسات.. ولذلك ستبقى هذه القضية عالقة بأرواحنا.
* في الأنفاق كنت وكأنك صعدت ِ للقمر مع أنك نزلت للنفق وقلتِ إن المرأة الفلسطينية استبدلت قلبها بالحجر أتعيش بنبض قلبها الحجر أم بغير هذا؟
- قلت في الرواية : شيء عجيب وغريب وكأن المرأة الفلسطينية استبدلت قلبها الذي سكن في الجهة اليسرى بحجر ! أعترض وأقول إنها استبدلت قلبها الذي في الجهة اليسرى بوطن يشبه الخنجر. هذه هي المرأة الفلسطينية.. لم تستبدل قلبها بحجر.. إنها استبدلته بوطن.. فلعبة الموت اليومية.. الاجتياحات اليومية الأوجاع المشتعلة تكفلت بتشكيل قلب جديد للمرأة وحتى لا يتوغل سواد الموت في بياض قلبها سيّجته بالدم.. ليس خياراً ما فعلته المرأة الفلسطينية إنها تزف قطعة من قلبها وروحها للحرية.. الحرية لها طعم مختلف.. «وهبتك لله» هي كلمة المرأة الفلسطينية التي تقاوم بها ضعف الأمومة المرهف!
* كيف تحملين هم خروجك من وطنك على ظهرك ثم تصفين حالك بأنك مكرهة ولم تكفري؟
- قلت في روايتي : أحمل وزر خروجي من وطني على ظهري لكني والله يعلم أني ما كفرت ولكني أُكرهت.. . خروج الفلسطيني من وطنه لم تكن اختيارا بل كان قسراً وهذا الخروج القسري لم يكن كفراً اختياريا.. إنه إكراه وليس على المكره حرج..