للوهلة الأولى لم أستطع فهم مفردة (سيلفي) وقرأتها بمعنى (سيأتي) كما هو معناها في اللغة العربية الفصيحة وفي معظم الدارجات المحلية.. ثم بدأت أكتشف معناها من الأوضاع التي تتم فيها الصورة وهيئة المصور ذاته وهو يلتقط الصورة، وقراءتي خبراً عن تطوير بعض الشركات تصنيع جوالات تستطيع التقاط الصورة من زاوية سيلفية
وهنا استوعبت أن الكلمة إنجليزية، وهي تساوي في ترجمتها (Myself) الإنجليزية، دخيلة مكتوبة بالعربية أي أنها (نفسي)، وحمدت الله أنهم اهتموا بكتابة الياء فيها كي لا تكتب (سَلَفي)، ويصبح العالم كلهم سلفيين.
إن الذين درسوا أثر الإنتاج التقني في قولبة العالم والقضاء على الاختلافات الثقافية ووسموا الإنتاج التقني بأنه إيديولوجي لأنه سيتحكم في البشر وذكروا أن الأفق الأداتي سيحول ذاته إلى مجتمع شمولي بطريقة عقلانية، وأن صورة العالم سترسمها التقنية وأن التقنية ستكون بمثابة تشكيل تأريخي أيديولوجي، ومن ثم فإن التقنية تأخذ كما هي أطروحة ماركوزة الأساسية وظيفة شرعنة وسيطرة قد يكونون محقين جزئياً، لكننا نعتقد أنها سيطرة تتسرب فيها فلسفة ما أو معرفة ما لأن الأداتية لا تستطيع التملص من الفلسفة التي تستعملها كأداة أو المعرفة التي ظهرت كأداة لها، وعلى ذلك فإن جميع أدوات الليبرالية الرأسمالية التي اكتسحت العالم قد نشرت قيم الليبرالية ولما تزل فاعلة متجددة ومستمرة في تسريبها لكل العالم مع ملاحظة أن الأزمات التي تنشأ في المجتمعات الليبرالية الأصلية بفعل التقنية تختلف عن الأزمات التي تنشأ في المجتمعات المتأخرة عن المجتمع الليبرالي الذي هو مجتمع الإنسان الجديد، ففي المجتمعات المؤدلجة بالإيديولوجيات القديمة المتخلفة والمتعصبة تقوم تلك الأيديولوجيات بتقديم صورة واحدة يجري تثبيتها واستنساخها فقط مع عدم السماح بمناقشة قضية التثبيت، ولا قضية الاستنساخ ولا بمناقشة الأيديولوجيا نفسها.
أما في صورة (سيلفي)، فيتم تقديم صورة واستنساخها، ولكن من غير تثبيتها مع السماح بمناقشة كل ما يتعلق بالصورة، إنها عملية ضد الأدلجة، فصورة (سيلفي) إضافة إلى أنها تقوم بإلغاء كل الحواجز في التقاط الصورة هي تقوم بقصد بتحطيم كل الجدران المتبقية بين الإنسان وأخيه الإنسان، هذا في المجتمعات المأزومة بالأيدولوجيا وبالطبقية وبالعنصرية التي ستكتسحها السلفي وستؤدي حينها وظيفة نقلة تقنية ليبرالية في الانتقال إلى مساق الإنسان الجديد إلا أنها في مساق الإنسان الجديد نفسه تقوم بوظيفة تقارب حميمة ووظيفة وضع لمسة إنسانية على التدفق الآلي الرهيب في هذا المجتمع وتتولى حفظ ذاكرة تُزرع فيها عاطفة بشرية نقية بعيدة عن أي اعتبارات سوى الاعتبارات الإنسانية في مواجهة تنميط الآلة، في حين ستكون (سيلفي) في المجتمعات المتخلفة ومجتمعات الإنسان القديم قادرة بالإضافة إلى تسريب قيم الليبرالية على أداء وظيفة مواجهة تنميط الأيديولوجيا، وتنميط العنصرية وتنميط الطبقية.
إن (سيلفي) وغيره من التنميط القيمي الإنساني كما سيلغي كل الحواجز، ويسمح بالتقاط الصور بالطريقة الليبرالية، سيلغي في الوقت نفسه نهائياً جانباً من المفارقات المنطقية اللغوية، ولكن بوساطة الصورة، إذ إن من يقوم بتصوير الصورة هو في الوقت نفسه داخل الصورة، وليس نفسه فقط بل نفسه بالإضافة إلى آخر كنفسه.
وهذا الجديد في السيلفي مع آخر مما يشكّل مجموعة س، وس هو أحد أفراد المجموعة، وهذا يجر إشكالات منطقية حلها راسل عن طريق نظرية الأنماط الشهيرة، بإخراج س عن تموضعه في المجموعة س عن طريق تبني مبدأ التراتبية لتحديد نمط القضية ونمط القيمة الصدقية التي تنطبق عليها.. فالأشياء هي من نمط (0) وخصائص الأشياء من نمط (1)، وخصائص خصائص الأشياء من نمط (2)... إلخ، وبهذه النظرية يتم استبعاد التناقض.. وبصفة تمنع عن كل تعبير أن يصف نفسه.. وبموجب ذلك يستحيل الأخذ بصيغ من قبيل (س 3 س) لأن هذه الحالات تضع الموضوع والمحمول في نفس النمط ولذا يجب أن يكون التعبير الموجود على يسار رمز الانتماء أعلى بدرجة واحدة على الأقل من التعبير الوارد عن يمينه. يقول د. حسان الباهي إننا لو طبقنا نظرية الأنماط على مفارقة «الكذاب» لأمكننا القول بأن القضية التي يقولها كاذب «أنا أكذب» تصبح باعتماد التشارح (أقرر قضية ما، وهذه القضية كاذبة)...، ولكن مفارقات المنطق من حيث الصدق والكذب لا تتحقق في مجال (الصورة الأداة)؛ فهنا عالم آخر ممكن غير العالم اللغوي الطبيعي أو المنطقي.. عالم يلغي كل المفارقات السابقة، وبذلك نحتاج إلى منطق خاص، فمنطق راسل في وضع النمط لحل المفارقة يتعلق باللغة الطبعية وبلغة المنطق الرمزي، إذ المفارقة لا وجود لها في الصورة ولا وجود لها في الواقع، إن للصورة منطقها الخاص بها وأداتها الخاصة هي أداة تدخل وتخرج في الوقت نفسه، وتفوشب الصورة لتكون حقيقة وتفوشب الحقيقة لتكون صورة، ثم إن وضع الصورة في حالة بؤرية على الوجه، وانحراف زاوية الالتقاط هي علامات تشير إلى نسبية الحقائق فهنالك ما هو خارج الصورة يدل عليه ما هو داخلها ضرورة، وهنالك زوايا قد تظهر ما لا تظهر هذه الزاوية.
إن الصورة في (سيلفي) مثل الصورة الاستعارية لا بد أن تكون محل اتفاق وإلا ستفقد وظيفتها، ومن هنا فإنها تشكّل إزعاجاً يجعلها فوق الصدق والكذب مرة أخرى، فهي صورة ليست حقيقة وإن كانت حقيقة.. هي صورة لحظة، وتنتهي اللحظة، ولكن قضية تلك اللحظة الأخطر أنها تحمل أمرين:
الأول منهما أنها ضد الإيديولوجيات القديمة كلها، والآخر أنها ضد النمط بأعمال مقولة النمط نفسه، أو بعبارة مقاربة أنها ضد التكرار بإعمال التكرار نفسه، وضد الزمن بتثبيت الزمن نفسه، وضد الثبات بإعمال الثبات نفسه.
إنها تنشر قيماً تحفل بالوقتي والسريع والبسيط وتحفل بالصورة والتقنية وتحفل بمنطق جديد للتعامل مع الإنساني والتلقائي، بيد أنها تضرب في العمق كل القيم التي لا تتوافق مع قيم المجتمع الليبرالي الحديث وخصوصاً القيم التي تبقى متعالية ومشتركة لأنها قيم إنسانية عليا فقيمة المساواة التي تقدمها هذه الصورة بطريقة تلقائية لا بطريقة إيديولوجية خطابية ولا بطريقة انفصامية بين النظرية والتطبيق تخترق هذه القيمة أعتى العنصريات وأعتى الطبقيات وأعتى الدماء الزكية وغير الزكية، والدماء الزرقاء وغير الزرقاء بطريقة موحدة ليس فيها أدلجة مسبقة للصورة ولا ترتيبات الصورة الاستبدادية التي تحرص على تسريب تفاصيل صورة تظهر الطرف المستبد مهيمناً على الصورة
إن قيمة المساواة التي تنشرها (سيلفي) هي قيمة ليبرالية تطبيقية تنشر مفاهيم الليبرالية كما تنشر مفاهيم الإنسانية بقوة وبلطف في الوقت نفسه، ولن تنتهي مثل هذه الأنماط الليبرالية التي تعزز في الأغلب قيماً إنسانية عليا إلا بنشر الروح الليبرالية في العالم. بيد أن نشر النمط وتشابه الناس في الملبس وفي المأكل وفي الثقافة وفي استعمال الأداة قد يؤدي إلى إنسان أقرب إلى الآلة وإلى إنسان موحد كئيب وقد يؤدي في الوقت نفسه إلى محو الثقافات الخاصة، وإلى محو التفاصيل الرائعة لإنجازات البشر ولثقافتهم المختلفة والمتنوعة التي لها آلاف السنين.
إن النمط الليبرالي في الغرب بعد أن اهتم بغرس القيم الإنسانية العليا ووضعها موضع التطبيق الصارم احتراماً للإنسان، استهلكته الآلة لا شك في ذلك وبدأ يعاني من أزمات المجتمع الليبرالي، ولعل الاهتمام بالمتاحف القديمة والاهتمام بالإنثربولوجيا في أطوارها الأخيرة، والاهتمام بتفاصيل المكان والاهتمام بتنشيط الذاكرة والعمل الدؤوب على إبقائها حية ضمن القيم الليبرالية نفسها هو خطاب ضد الآلة حتى لا تتحول إلى إيديولوجيا تبتلع الإنسان...، أما في المجتمعات الأخرى الهائمة في ضلالها القديم وفي استغلالها للأديان للتسلط على الإنسان، وفي الحروب التي تقيمها باسم الرب وباسم القيم وهي تمارس أقسى التوحش وأخس القيم وتمارس تمييع الحقائق واستلاب الحقيقة وأدلجتها رغماً عن الآخر فتلك المجتمعات تعيش حالة تخبط عشوائي أمام الاكتساح الليبرالي الأداتي ضاعت معه أفكارها وضاعت معه اتجاهاتها فهي لا تدري ماذا تحفظ ذاكرتها وماذا تدع ولماذا تقوم بالسيلفي أو بتحدي الثلج أو تتواصل بالفيس وتوتير أو غير ذلك من الأنماط الليبرالية التي ستظهر تباعاً وستغزر وستحاصر كل الأيديولوجيات بطرق تلقائية تواصلية سريعة وفاعلة وستوحد كثيراً في النوع البشري ليقترب من إنسانيته المنتزعة رويدا رويدا.