في مجتمع اعتاد على أن المرض النفسي عيبٌ؛ يستدعي الخجل من الاعتراف به، حاز خبر توقيع مريضة نفسية بعد تعافيها من مرض الفصام لأول كتاب قامت بتأليفه بعد الشفاء اهتمام الكثيرين. وكانت هذه السيدة الشجاعة في تغلبها على المرض، وقدرتها على استئناف الحياة، واستثمار معاناتها الشخصية بشكل إيجابي، التي لم يتم إعلان اسمها أو عنوان مؤلفها، قد قامت بتوقيع كتابها في الندوة العلمية التي نظمها مجمع الأمل للصحة النفسية في الرياض بالتعاون مع الجمعية الخيرية السعودية لمرضى الفصام، بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، الذي حمل عنوان «التعايش مع الفصام». وأرجو أن تواصل هاتان المؤسستان والمؤسسات المعنية دعمها وأمثالها. والفصام مرض نفسي، يُصيب واحداً من كل 100 شخص، كما يصيب الموهوبين والمبدعين، ويعاني المصاب به صعوبة التركيز والتفكير المجرد، وميلاً للعزلة، وسماع أصوات. ويُعدّ الرسام العالمي بيكاسو من أشهر من عُرف عنه إصابته به؛ لذا يفترض أن لا تستدعي الإصابة بالمرض النفسي الخجل، أو الانكفاء على الذات؛ فليست هي بوصمة عار كما يعتقد البعض، ويعانون في محاولة إخفائها والتكتم عليها بشكل يزيد معاناتهم معاناة، وبخاصة مع تزايد الصراعات والحروب وضغوطات الحياة ونكباتها، واتساع خارطة الإصابة بالأمراض النفسية في العالم.. فالمبدع يظل إنساناً؛ يصيبه ما يصيب الآخرين، ومن ذلك الأمراض النفسية، بل إن الواقع يؤكد أن لدى المبدع القابلية أكثر مما سواه للإصابة بالاضطراب النفسي نتيجة ما يتصف به من رهافة حس وعاطفة وقدرة هائلة على التفاعل والانفعال؛ تجعله غير قادر أحياناً على تحمُّل بعض صعوبات الحياة وصدماتها الكبرى؛ وهو ما يتطلب عناية خاصة بالمبدع؛ باعتباره ثروة وطنية وإنسانية قيمة، وأن تُهيَّأ البيئة الملائمة والصحية لممارسة الإبداع، إضافة إلى توفير ظروف العيش الكريم للمبدع، وعدم تركه فريسة المرض أو الفقر والحاجة التي تطحنه، وتستنزف طاقاته. فأشهر المبدعين في العالم وقعوا فريسة اضطرابات نفسية أو عقلية، وانتهى بهم المطاف للهلاك والموت منتحرين. وقد اشتهر عن الرسام الهولندي فان غوخ، الذي بلغ به الحال إلى أن قام بقطع إحدى أذنيه بنفسه، إصابته بالاضطراب ثنائي القطبين، وفيه تتأرجح حالة المريض بين الاكتئاب إلى الهوس، مع فترات من المزاج الطبيعي بين هذين القطبين المتضادين. كما عُرف عن الأديب والفيلسوف أبو حيان التوحيدي الذيختُلف حول أصوله، هل هي عربية أم لا، إصابته بالاكتئاب، وتردد أنه مات منتحراً بعد أن أحرق جميع كتبه ومؤلفاته. ويُعدُّ الاكتئاب من أكثر الاضطرابات النفسية التي يُصاب بها الإنسان عموماً، والمبدع بشكل خاص، ومنه عانى الكاتب الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز والكاتبة الروائية جيه كي رولينج صاحبة سلسلة روايات هاري بوتر، كما عانى من الاضطراب النفسي الأديب المسرحي الإنجليزي وليم شكسبير، والشاعر الإنجليزي المشهور اللورد بايرون. وفي فرنسا عانى كل من فيكتور هوجو وكذلك ألكسندر دوماس والروائي الكبير بلزاك من اضطرابات نفسية. أما في روسيا فقد كان هناك ديستوفيسكي وغوغول وأنطوان تشيخوف وتولوستوي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان هناك مارك توين وأرنست همنجواي، الذين عانوا جميعاً من اضطرابات نفسية. كما كان يعاني من الاضطرابات النفسية والاكتئاب الموسيقي العبقري بيتهوفن نتيجة معاناته في الأساس من قهر أسري وتعذيب من والده، وفاقم معاناته فقده حاسة السمع في مراحل متقدمة من حياته. وطال ذلك بدرجة عالية المؤلف المهتم بالكتابة حول الشخصيات المضطربة إدغار آلان، إضافة إلى الأديب الأمريكي الكبير أرنست هيمنغواي الحائز جائزة نوبل للآداب في العام 1954، وأحد أشهر الرواة وكاتبي القصص في الولايات المتحدة والعالم أجمع، والكاتب الأعلى سعراً في زمنه على الإطلاق الذي وقع ضحية للاكتئاب الدائم، ومات مُنتحراً بطلقة رصاص من بندقيته، وهو المصير الذي لقيه قبله والده وأخوه وأخته، الذين ماتوا جميعاً مُنتحرين أيضاً. وفي الجانب العربي هناك الكاتبة المصرية أروى صالح والكاتب المصري إسماعيل أدهم والأديب الأردني تيسير سبول والشاعر اللبناني خليل حاوي والفنانة اللبنانية داني بسترس الذين كانت نهايتهم مؤسفة.
هؤلاء جزء من سلسلة طويلة من المبدعين والمشاهير، من الذين كانوا يعانون وطأة الاضطرابات النفسية والعقلية، وعاشوا حياة لم تكن تخلو من الألم، لكنهم أبدعوا وأثروا الإبداع الإنساني بالكثير.
المرض النفسي رغم ما يحمل لصاحبه من ألم ممض لكن الإصابة به لا تعني نهاية الشخص؛ فهو كغيره من الأمراض العضوية الأخرى التي يمكن أن يتعايش معها المرء، وقد يُشفى منها أحياناً إذا ما تم علاجه مبكراً. ونحن لسنا في معزل عن ذلك كله؛ ففي وسطنا الإبداعي الذي لا يرقى لآمال مبدعين، ويشكل في كثير من جوانبه ضغوطات إضافية عليهم، هناك من يعاني بشكل أو بآخر من الأمراض النفسية. وإن وجد من تجاوز مرحلة الخجل من الاعتراف بذلك، وبات يعلن ويصرح أملاً بمد يد العون له وانتشاله، فهناك من لا يزال يتألم ويعاني بصمت.