قيل سابقا الكتاب يكتب في مصر ويطبع في لبنان ويقرأ في العراق.
والمقولة فيها الكثير من الصحة. فلقد عرف العراقي بعشق القراءة. هذه المقولة كانت سائدة أبان الحقبة الملكية في العراق، وهي حقبة فيها الكثير من الرومانسية السياسية والرومانسية الأخلاقية. فملكنا الذي كنا ننشد عنه النشيد المدرسي «مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح. عش سالما عش غانما بوجهك الوضاح» كان قد افتتح الإذاعة العراقية بصحبة المطرب فريد الأطرش. وكان افتتح أول تلفزيون عربي كان يبث من معرض بغداد الدولي. كنا نحتار أن نختار أية صالة سينما وأي فيلم نذهب لمشاهدته، فالصالات في مسابقات الجمال والأفلام تأتينا بدون رقابة متعنتة. وكانت الدنيا بخير. لم يعتد فيها مواطن على مواطن. تمشي في الأسواق فتسمع قهقهات الناس حيث الفرح يسود العائلات والمحلات التجارية والأسواق. وليلا تأتي العائلات إلى شارع أبي نواس يقضون سهراتهم هناك. جواز السفر العراقي كان جوازاً محترما، لم تدقق فيه سفارة ولا مطار، وهو يستقطب التأشيرات ولم يمنع عراقي يوما من دخول بلدان العالم.
كان لنا شارع للمكتبات هو شارع المتنبي وكانت لنا مقاه للمثقفين، وحديث المثقفين في المقاهي كان دائما عن الكتب الجديدة. وللمكتبات العراقية تاريخ عراقي، حتى عرفت عائلات بعظمة مكتباتهم ومحتوياتها من الكتب النادرة والمخطوطات النادرة.
تطورات درامية دهمتنا على حين غرة. صرنا ضحية مؤامرات دولية وحروب عالمية وبدأ انحسار الثقافة في شتى صنوفها الأدبية والفنية حتى وصلنا لمرحلة تهديم صالات السينما وهي التراث الثقافي الأنيق وسمة من سمات التلقي العراقية للثقافة السينما.
وبسبب الأزمات الاقتصادية وبالضرورة الاجتماعية والسياسية وأخيراً الأمنية لم تعد مقاهي الثقافة قائمة فلقد زالت من شارع الرشيد المقهى البرازيلية ملتقى المثقفين المترفين، وكذا مقهى علي بابا في مدينة البصرة.
صارت المقاهي مواقع خوف يتردد المثقفون في ارتيادها وبالفعل فلقد قام الإرهابيون بتفجير مقهى المثقفين في منطقة الكرادة في بغداد. وصار الخوف على شارع المتنبي ملتقى الكتب والكتاب، ويأتيه المثقفون مرة في الأسبوع حتى هب حشد من الشباب المثقفين لإقامة سوق للكتب في كورنيش شارع أبي نواس، سوق ليست تجارية يتبادل فيها المثقفون الكتب ويتبادلون الرأي ويتصفحون الكتاب الأكثر قراءة.. كل ذلك تحت شعار «أنا عراقي أنا أقرأ» على غرار ما بثه الفكر الوجودي «أنا أفكر أنا موجود»
بثت الفضائيات مشاهد من سوق الكتب هذا على امتداد كورنيش أبي نواس والمشرفون على السوق يرتدون قمصانا كتب عليها «أنا عراقي أنا أقرأ». يشكل هذا الإصرار في التجمع والمشي بذلك الزخم الذي شهدناه على شاشات التلفزة، يشكل تحديا للموت ويمثل مواجهة المفخخات بالكتب. أدباء، صحفيون، طلبة جامعات، وطلبة أكاديميات الفنون. يمشون في شارع أبي نواس الذي كنت قبل شهور أتوجس خيفة من المشي فيه، تحول فجأة إلى بنوك ثقافية أو طاولات ثقافية مع أن نهر دجلة قد ابتعد أو أبعدوه عن حافة الكورنيش عندما رفض الدكتاتور وحراساته أن يجلس المتعبون على حافة النهر خشية أن يتطلعوا إلى قصره الجمهوري في الضفة الأخرى.
النهر بعيد عن الكورنيش ولم تعد ثمة مقاه مزدهرة على شاطئ النهر ولكن ثمة ظاهرة جديدة سادت بغداد وشارعها النواسي.. تظاهرة من التحدي، تحدي القراء في هبة مفاجأة أدهشت الجميع وقالت للجميع هؤلاء نحن عراقيون نقرأ ونكتب أيضا ولو منعتم عنا القراءة فثمة مثل يقول «العراقي يقرأ الممحي».
أنا شخصيا سعيد بهذا المثل وسعيد بتظاهرة الثقافة «أنا عراقي أنا أقرأ» وسعيد بالمثل القائل «العراقي يقرأ الممحي» وأتمنى أن يقرأ المكتوب أيضا! فالواقع الثقافي في العراق بحاجة إلى إعادة هيئات الثقافة وتجمعاتها وطبيعة الإصدارات الثقافية والوقوف صفا واحداً أمام البرلمان للمطالبة بمحو الأمية تحت قبة البرلمان وتمزيق الشهادات التي تشترى من الإنترنت لأن أغلب المتحدثين في المؤتمرات الصحفية داخل قبة البرلمان يقولون «ومن أهدافنا» أتمنى أن يقام معرض الكتب القادم داخل قبة البرلمان «أنا عراقي.. أنا أقرأ»!
تحية لأصحاب المبادرة التي أعادت لثقافة القراءة الاعتبار كي تبقى القراءة سمة للعراقيين على مر الأزمان.