تعودنا على سماع الحكم أو الأقوال المأثورة، وترديدها بوصفها حقائق غير قابلة للنقاش، ومنها تلك المقولة المترجمة عن الغرب إلى العربية تحت شعار: «الوقت من ذهب»، وكان سلفها المرحوم في الثقافة العربية: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»! ألهذا الحد نحن نحترم الوقت أو نقدره أو نخاف منه؟ بل ما علاقتنا في حقيقة الأمر بالوقت؟
لو نظرنا إلى ممارساتنا في حياتنا اليومية أفراداً ومجتمعات، لرأينا أن الوقت آخر العناصر المحترمة في منظومتنا. فكثير منا يزور غيره في العمل أو المنزل دون استئذان مسبق، أو سؤال عما إذا كان لديه ما يشغله في ذلك الوقت؛ فالإخبار بالقدوم ليس كافياً، مع استكراه التصريح بوجود العمل أو المشاغل، التي قد تحول دون الرغبة في إتمام الزيارة. ثم إن الزائر إذا أتى أعطى لنفسه الحق بالمقام إلى متى يشاء؛ مما جعل بعض أصحاب الانشغال والحرص على عدم إضاعة الوقت يبتكرون طرقاً ناجعة لتذكير أصحاب الزيارات الثقيلة بضرورة مغادرتهم المكان، وإفساح المجال للعمل أو الراحة (إذا كانت زيارة منزلية)، لتأخر الوقت أو وجود أعمال في الصباح الباكر. وفي غير الزيارات أيضاً تقضي العائلات كثيراً من الوقت في إعداد الطعام، وتجهيز المشروبات المتوالية والحلويات المصاحبة، أو الإتيان بكل ذلك من خارج المنزل، مع ما يتطلبه هذا الإعداد والتجهيز أو الإحضار من جهود ووقت ضائع ومتكرر في كل زيارة.
وإذا نظرنا إلى ثقافتنا المتصلة بالوقت، وجدنا التناقض بين الواقع والمعلن؛ ففي تلك الزيارات الثقيلة نصرح دائماً، بأن الوقت ما زال مبكراً، حتى وإن كنا متيقنين بعكس ذلك. وعندما يطلب أحدهم الإذن بالانصراف، يقال له: وش وراك؟ وكأنه لا بد أن يكون هناك شيء ملحّ من أجل أن ينظم المرء وقته، ويترك الآخرين يستمتعون بأوقاتهم. كما نجد هذه الثقافة تنظر إلى الوقت بوصفه من العناصر الثقيلة، التي يستعين المرء على هضمها بالملطفات. فمن التعبيرات عن الحرص على تمضية الوقت، إلى إشارات بأنه كفيل بالقضاء على الهموم الثقيلة برحيلهما معاً (من أمثلة: «تموت مع الوقت» أي أن الوقت هالك ويموت وغير مرغوب فيه). وربما وصفه العرب بصفات ذميمة، مثل: «الزمن غدّار» أو ماله أمان! فهل الغدر أو عدم الأمان مصدرهما الزمن، أم الإنسان الذي يمارس هذا الفعل، ثم ينسبه إلى الظروف المصاحبة؟
ومع أن ثقافتنا تستميت في إعادة الاعتبار للماضي، وتطلب إحياءه بكل وسيلة طلباً للتأكد من الجذور، فإنها خلافاً لذلك تدّعي التمسك بالحاضر، والسعي إلى المستقبل برؤية حثيثة وآنية. فهل التفاتنا إلى هذه الثقافة الغربية وادعاء تمثل قيمها هي محاولة في ادعاء تبني الحداثة بوصفها سمة غربية بامتياز؟ فالحداثة نشأت حسب تصور تتابعي، تصاعدي للتاريخ يقضي بأن يتبين فيه المبدع قبل غيره بوصفه «الطليعة» وجه الأيام المقبلة. وذلك وفقاً لما قاله روبرت جوس عن رجال الحداثة «الذين يرون عصرهم بعيون المستقبل»، أو كما كان يصفه الشاعر اوكتافيو باث: «الحداثة تنكر الزمن التكراري: الأشياء لا تحدث إلا مرة واحدة، وهي لا تعود أبداً إلى الوراء».
أما نحن فلا نملّ من تكرار: «التاريخ يعيد نفسه»، وإذا فاتتنا الفرص، كانت الاستهانة بما فات، وأن «الأمور ملحوقة»، و»لا راح إلا الشر»، أو: «يا رجال خيرة»! فهل تتوافق هذه الثقافة، ونمط الحياة الذي يستمر فيه طبخ الطعام لساعات طويلة؛ مع ثقافة الغربيين التي تصف الوقت بأنه مساوٍ للمال، ولأنهم يقومونه دائماً بالمال، وقد أصبحت مقولاتهم تصل إلى أنه أثمن من الذهب، بل هو الحياة!