كتبت مقالة في العدد المنصرم الموافق 8-1-1436هـ، بعنوان: «التوجه الماركسي عند سعيد يقطين»، وكنت أرى فيها أن الدكتور سعيد ماركسي التوجه من خلال بعض كتبه، ومنها» الأدب والمؤسسة»، و»تحليل الخطاب»، و»انفتاح النص»، وقد ردَّ على مقالتي في حقل التعليق أسفل المقالة على موقع المجلة الشبكي بما نصه:
(لا تميز المقالة بين البنيوية والماركسية. لقد جاءت البنيوية لتساجل الماركسية وتناقضها. وتنمية وعي القارئ للارتقاء بالمجتمع لا علاقة له بالماركسية. فكل إبداعات الإنسان وتفكيره هو من أجل تحقيق هذا الهدف. أما الماركسية فقد انتهت من زمان. في موطنها، وفي الوطن العربي. وأن الذين يثورون الآن ضد الحكام. ويحملون السلاح لقلبهم فلا علاقة لهم بالماركسية. وأحمد الله أن لم يعنون الكاتب مقالته بـ»التوجه الداعشي عند سعيد يقطين». إن التأولات المغرضة لا تسهم في تطوير الكتابة أو الوعي الأدبي). انتهى.
قبل البدء، أود أن أشير إلى أنني قد رددت على قول الدكتور في حقل التعليق باعتذار يليق بي وبه، ويحاول أن يمتص غضبه ما أمكن، فالشأن هنا لا يعدو أن يكون نقدًا أدبيًّا محضًا، حيث إني أرى توجهه الماركسي، وهو ينفي. فلست بمغرض.
يرى الدكتور سعيد أن المقالة لا تفرق بين البنيوية والماركسية، وقد صدق؛ ذلك لأن غاية المقالة ليس التفريق بينهما، وما أدري كيف أراد أن تكون فكرة المقالة هي ذاك التفريق؟!
إنني أتحدث عن توجهه الماركسي، وقلت إن نقده بنيويٌّ، وهو يخفي الماركسية داخل البنيوية، والبنيويون مولعون بالثنائية بين الداخل والخارج، فمن الخير للدكتور أن يكون ماركسيًّا إن كان بنيوي المنهج، حيث إن الأصل في البنيوية هو الماركسية، وهناك ما يُعرف بالبنيوية الماركسية التي تحاول أن تطور الفكر الماركسي، فالبنيوية متفقة والماركسية في البنية التحتية والبنية الفوقية، ولا جدال في ذلك، حيث إن مبدأها منذ بلوكاتش، وجولدمان، وتيري إيجلتون، وهي تنحو هذا النحو، فلا فصل بينهما.
إن القوة الماركسية هي التي أثرت في البنيوية، وليس العكس، لذلك تتفقان في الاهتمام في الإبداع وإهمال المبدع، أي أن الإنتاج هو الغاية، فالذات المنتجة عندهما لا اكتراث لها، أي أن اللغة هي محور الاهتمام، كما أن التحليل النفسي لفهم المضمون غاية المدرستين، غير أن الماركسية تهدف إلى سبر المجتمع من التحليل النفسي، والبنيوية تشتغل عليه من باب العناية باللغة في النص الأدبي لفهم المضمون. أي أن الماركسية تهتم بالأدب من خلال خدمته للمجتمع، أي ربط الأدب بالمجتمع، أما البنيوية فهي تسبح فوق لغة النص، إذ يعنيها اختبار لغة الكتابة فحسب.
لذلك قلت إن من الخير للدكتور أن يكون ماركسيًّا، فالبنيوية لم توفق بتخليها عن أدب المجتمع، ولعل مقولة تودوروف تبرهن ذلك» كان مقصدي ومقصد الأشخاص حولي في ذلك العهد إقامة توازن بين الداخلي والخارجي كما بين النظرية والتطبيق، لكن ما هكذا جرت الأمور».
إن «رولان بارت» حين اعتبر النص كنوع من الكرنفال اللفظي تكون اللغة فيه غائبة عن مهام الحياة الصاخبة، لذلك اغتمَّ البنيويون الأوائل وعلى رأسهم «ياكبسون» و»وغولدمان»، حين لاحظوا شدة المعضلة سيما اشتمالهم على الخلفية الماركسية، لذلك قد عدوا «سارتر» مرتدًّا حين وجدوا أن تبنيه للوجودية تطرده من الالتزام الماركسي!!
لعل حكمت الخطيب ويأسها من محاولة التوفيق بين منـزلق الثنائية و البنية المنغلقة ما يبرهن هذا أيضًا.
إن الماركسية تقوم على إلغاء الذات، وكذلك البنيوية، ومما يحكى في هذا الصدد أن «لينين» الماركسي، سمع أن الشاعر الروسي «لسنين» قد أخرج ديوانًا وطبع منه أربعين ألف نسخة، وقد استغرب من هذا العدد، واستغرب أكثر حين علم أن موضوع الديوان هو الحب، فقال: كان عليه أن يطبع نسختين فحسب، واحدة له، والثانية لحبيبته!!
يبدو لي أن عامل الزمن مهم عند الدكتور، حيث ذكر أن الماركسية انتهت من زمان، في موطنها وفي الوطن العربي.
لكنني أتساءل هنا- متعجبًا- عن مشروعه النقدي البنيوي، علامَ اتخذ البنيوية منهجًا له وقد انقرضت منذ إعلان «رولان بارت» في مقالة له في فرنسا انتهاء البنيوية عام 1968م؟! يلحظ القارئ هنا تأخر زمنية مشروع الدكتور الذي هو بصدده، فلو كان في زمن البنيوية لما نقمنا عليه. أي أن المشروع قائم على الفتات!!
إن أول كتاب في مشروع الدكتور كان عام 1985م. أي بعد سبع عشرة سنة من موت البنيوية، بل وتحول «رولان بارت» إلى التفكيكية وطرح البنيوية السردية.
هل أقول إن التمايز النقدي الأكاديمي الملغز هو السبب؟!
يرى «ديفيد لودج» أن الناقد الأكاديمي لا يكتب إلا لنفسه، فضلاً عن أن البنيويين لا يكتبون إلا لأنفسهم، فهم ينظرون بكل دقة، ولكنهم يفشلون عند أول عتبة في التطبيق. هذا، وإن الناقد الأكاديمي لا يستفيد منه الروائي، ولا يستفيد منه الط الب الجامعي على حد سواء، ولعلي أذكِّر الدكتور أنه في كتابيه «تحليل الخطاب» و»انفتاح النص».
لم يورد مسردًا للمصطلحات الخاصة به وبغيره، في حين أن غيره من النقاد يأتون بمسرد لها، وكلنا يعلم مدى أهمية تحديد دقة المصطلح!!
فضلاً عن تلك الخدعة التي حدت به إلى فصل الكتاب المنجز في السنة نفسها إلى كتابين ليهرب من مزلق المنهج البنيوي كما لا يخفى، وقد لاحظت ذلك الدكتورة فريال كامل سماحة في كتابها «النقد البنيوي للسرد العربي».
هذا، وإن أغلب الظن أن الدكتور قد تشبع من القراءة في البنيوية، فأراد أن يجر القارئ معه في معمعتها تحت مصطلح رنّان هو المشروع، ولعل تلك الصفحات في المهاد لكتاب» تحليل الخطاب» البالغة خمس وسبعون صفحة تدلل ذلك، إذ إنها تعدل ثلث الكتاب!!
يخيّل إليّ أن الدكتور قد شق عن صدور أولئك الثائرين ضد حكوماتهم ووجد أنهم لا ينتمون إلى المذهب الماركسي، وأكبر الظن عندي أن الثورات اليوم والمسماة بالربيع العربي لم تتخذ مذهبًا، وإنما هي سنن كونية، فمنهم من يتخذ القرآن ليحارب بآياته، حيث إن علي بن أبي طالب يقول: «القرآن حمّال أوجه»، حين ثار عليه الخوارج، ومنهم من يكون هاجس الظلم والحاجة إلى العدل هو صميم الثورة عندهم.
إنها ثورة على كل حال، سواء انطلق الثائرون من الماركسية أم من غيرها، وإني حين نقدت الدكتور من خلال تصوري لتوجهه الماركسي فإني أعامله بنيويًّا كما فعل في مشروعه، فلي الداخل، ولست معنيًا بالخارج، أي أنني ألتفت إلى النص فحسب.