لا شك أن «مصطلح الدين» يختلف في تكوينه عن غيره من المصطلحات، وليس المراد بالاختلاف هنا تعزيز تميزيّة أو فوقية تُضاف إليه بقدر أن المراد من الإشارة إلى الاختلاف المقصد منه إثبات العلاقة الخاصة بين مصطلح الدين والذات في صياغتها الأنوية؛ وبذلك يرتبط الدين «بقوة اعتناق الذات نحو محتوى» وبقوة اعتقادها» و»قوة جزمها وتصديقها لذلك المحتوى» وقوة الاعتناق والاعتقاد وقوة الجزم والتصديق «هم من يُشكِّل العلاقة البيانية الخاصة بين المحتوى الممثل للاعتناق والاعتقاد والجزم والتصديق والذات، وهم أيضاً مصدر «قدسية المحتوى» والقدسية هنا ليست خاصة بالغيبي اللاهوتي إنما يمكن تعميمها على كل «محتوى يضمن قيمة جدوى».
و»قيمة الجدوى»يمكن اعتبارها هنا أصل أوليّ ليس في تشكيل «مصطلح الدين» إنما مُضاف إلى أوليّة التشكيل؛ أي الحقيقة التي يكتسبها المعتقد والتي من خلالها يمكن تمثيل «خطاب معرفي مختص «يتدرج بتأثير حدود «القول الداعم والفعل المُعبّر» وهما؛ أقصد القول الداعم والفعل المعبر بمثابة الحجاب الذي يتستر بهما «الخطاب المعرفي المختص» ويمكن تحويله إلى سلاح مقاومة أو سلاح إرهاب، وتؤسس «للكراهيات المنفلتة» والعبء الأسود لمشاعر التطرف العرقي.
والحقيقة من المحتويات الاستشكالية لأنها عادة ما تُفرض «ككفاية لزومية أحادية العقيدة»، ومصدر الاستشكالية ها هنا قائم على أن ما أؤُمن به كحقيقة هو بالضرورة أن يؤمن بها غيري أنها حقيقة باللزوم، وأن كل ما تعتقده الأنا حقيقة أو الاتفاق الجمعي حقيقة هو بالضرورة «حقيقة بالنسبة للآخر سواء في فرديته أو جماعيته» بذريعة جاذبية القيمة.
وذلك وفق اعتبار قاعدة «أن الطبيعة واحدة وبالتالي فهي تلزم بالضرورة حقيقة واحدة» تلك الحقيقة التي تعتمد على «وحدة جاذبية القيمة» تلك الوحدة التي يتحرك الدين ضمن استدامة القيمة الثابتة وغلبة جاذبية القيمة، تلك الجاذبية التي تتجاوز مسلمّة أن الأصل الثابت هو «اختلاف الطبيعة»؛ لإيجاد وفاعلية قيم التعارف والاستفادة من التنوع.
قد يعتقد البعض أن العبارة السابقة قد تحظى بقبول منطقي عند الجميع، لكن الأمر يختلف كلما اقتربنا من تفاصيل التجربة الإنسانية في كليتها التاريخية والنهضوية؛ لأسباب عدة منها ما يدخل في الاعتبار اللاهوتي ومنها ما يدخل في الاعتبار السياسي ومنها ما يدخل في الاعتبار الاقتصادي ومنها ما يدخل في الاعتبار الثقافي.
وكل تلك الاعتبارات تتحرك وفق «فاعلية التمكين» وبذلك يمكن القول إن «كل عقيدة تؤمن بفاعلية التمكين هي دين» لأنها تتجاوز قوة التصديق والجزم المعرفي شاملة قوة ضرورة النشر والتوزيع؛ لأن بدونهما لا يمكن تتحقق فاعلية التمكين، وفي هذا الأمر تتساوى الحروب باسم المقدس مع حروب الاستعمار وصولاً إلى العولمة، وما يُسمى بحركات الجهاد الإسلامي.
إن فكرة فاعلية التمكين لا تخلو من أبعاد استعمارية بما تستدعيه من فوقية وثنائيات جالبة للخلاف والصراع. إن فاعلية التمكين لا تتحقق إلا في ضوء إلغاء توازنات القوى والسلطة الحصرية، وهذه القاعدة هي التي تؤسس لفلسفة التطرف، لأن تعاليم المصطلح تتحول إلى مسلّمات.
وموجز القول هو «أن كل عقيدة تتصف بقوة الاعتناق وقوة صدقية تعاليمها عبر التحول إلى مسلّمات وتسعى قصديتها إلى فاعلية التمكين وتتحكم في نشأة وعي الجماعة وتأليف أنساقهم وصياغة قوانين معاشهم «هي «دين» لأن ما تتصف به وما تسعى إليه وما تتحكم في نشأته من وعي ونسق وقانون هم من يمنحها خصائص المقدس، بصرف النظر عن الصفة الغالبة على خلفيتها سواء أكانت سماوية أو علمانية أو وجودية.
هل هذا يعني بدوره أن كل «مصطلح» هو بالضرورة «دين»؟ أو هل بالضرورة أن يتحول إلى دين؟
قد يقول قائل يمكن أن يبدأ النقاش من عتبة هل كل معتقد بالضرورة هو دين أو بالضرورة يجب أن يتحول إلى دين؟
وفاتحة هذا الرأي علينا أن نقف أمام فكرة «التدرج الوظيفي لتكوين الماهية» والبداية ها هنا هي «الإفراغ الصفري» للماهية أو «تصفير التعبير الدلالي» للماهية ولا أقصد بالإفراغ أو التصفير «تجريد المصطلح» بالإلغاء أو تعديمه؛ لأن المصطلحات كائنات لغوية لا تاريخية وهذا ما يضمن صلاحيتها لأن اللغة كائن قابل للتطوير،كما أن القيمة الدلالية للمصطلح ثابتة التصاعد، والإفراغ يتم على مستوى التوصيف اللغوي الذي يتحكم في اتجاهات الدلالة، وبالتالي فالإفراغ أو التصفير هو إعادة هيكلة التوصيف اللغوي للمصطلح، والتحكم في إعادة تلك الهيكلة هي التي تدفع المصطلحات إلى تزييف الدلالة وأيديولوجيتها.
لو تأملنا التدرج الوظيفي لسلم الماهية سنجد أن بداية كل ما هية «مجموع من الأفكار القابلة للإيمان» والتي تُصبح فيما بعد «مجموعاً من التعاليم» ثم «مجموعاً من المسلّمات» التي تتشكّل في ضوئها الشرائع والقوانين والأنظمة والوثائق.
. وضمن ذلك السلّم للتدرج الوظيفي لتكوين الماهيات يمكن احتساب التطور اللغوي للماهية؛ فالاعتقاد «مجموع الأفكار القابلة للإيمان» وعلينا هنا أن نفرّق بين «الاعتقاد والعقيدة».
فالعقيدة «مجموع المسلّمات الثابتة بالتطبيق»، كما أن الاعتقاد كونه يعتمد على «قابلية المرء للإيمان من عدمه، فهو مبني على «حرية الاختيار» في حين أن العقيدة كونها مسلّمة ثابتة بالتطبيق القانوني فهي مبنية على «لزومية الاختيار» واللزومية هنا ليست معادِلاً «للجبرية»؛ لأن قبول المرء للانضمام والمشاركة في فاعلية «الاتفاق الجمعي» يفرض عليه الاستجابة لكل المسلّمات الممثلة لذلك الاتفاق الذي عقده بكامل إرادته ورضائه دون التحكم بالاختيار بجدولة التمييز والتصنيف؛ ولذلك فهو خاضع بإرادته وفق ذلك الاتفاق لتنفيذ عقوبات الخروج على تلك المسلّمات بالتغيير أو التمرد أو الثورة.
والمصطلح وفق ذلك التدرج هو الوسيط الذي ينتقل من خلاله الاعتقاد إلى عقيدة والعقيدة إلى دين متحكم في تحويل المسلمات إلى قوانين وشرائع ووثائق حقوقية؛ ولذلك يُعتبر روح أي عقيدة.
كما أن المصطلح يتجاوز وظيفة «بطاقة التعريف» الخاصة بالعقيدة فهو «دستور غير معلن» لتلك العقيدة وهو من يؤسس للعقيدة خارطة التمكين المنتِجة للمشيئة القدرة.
والمصطلحات لها مستويات من حيث التأثير ومدى القيمة والقدرة على الإقامة التمكينية أو الاختفاء «سالب الجاذبية».
ويرتبط كل من التأثير والقيمة والإقامة التمكينية أو سالب الجاذبية أولاً بالقوة الكمية للجمهور وكلما ارتفع عدد المؤمنين بالمصطلح زادت قوة المصطلح وتوسعت سلطة تمكينه وشق طريقه نحو حصرية السلطة.
وثمة شروط هي التي تحول «المصطلح إلى دين» وهذا حديث آخر.