الناس في قريتي النائية في جنوب الوطن، قرية العسلة في منطقة الباحة، اتخذت من زيارته لهم وزملائه، وفد الإذاعة السعودية قبل نصف قرن من الزمن، أي في بداية الثمانينيات الهجرية تاريخاً، إذ هم يتذكرون ذلك المهرجان الكبير، والحفل الذي تم في بيت شيخ القبيلة حينها الشيخ حامد الكلي - رحمه الله -، وحضر عرضتها أفواج من البشر، لم يكن للقرية حينها دراية بكل تلك الترتيبات، ولكنهم يأكلون ويعرضون ويفرحون، ويرون وجوهاً غريبة تدخل قريتهم، وستخرج أصواتهم وقصائدهم في النهاية عبر الراديو هذا الجهاز السحري، وهو يقدمهم للمستمعين من الأرض الطيبة.
برنامج الأرض الطيبة والأستاذ - عبد الكريم محمود الخطيب صنوان، إذا ذكر أحدهما فلا بد أن يتداعى الآخر إلى الذاكرة في الحال، وخلدت في ذاكرة الناس بعض البرامج الإذاعية القديمة، كبرنامج (تحية وسلام) لزميله في تلك المرحلة الأستاذ بدر كريم، فقد كان يطارد المبتعثين في كل جهات الأرض، ليوصل صوتهم إلى الوطن ويربطهم به، وكذلك بعض البرامج الإذاعية الآخرى، كانت تجسد نبض المواطن في زمن شحيح، كنا نفتقر فيه إلى وسائل التواصل المتنوعة الآن، وحينها لم يكن هناك وسيلة غير الإذاعة، وهب لي مذيعاً يستطيع بوعيه وإخلاصه، أن يصل إلى كل شرائح المجتمع، وأحسب أن الصديق والأستاذ عبد الكريم محمود الخطيب، كان واحداً من ذلك الرعيل الأول الذي حفر في الصخر، ليشكّل له حضوراً ومستمعين عبر برنامجه الشهير الأرض الطيبة، البرنامج الذي كان موجهاً إلى المزارعين، حينما كان لنا زراعة وكان بيننا ناس طيبون، كان البرنامج الذي يحمل بين أهدافه التوعية، يحمل أيضاً بعداً عميقاً في دلالة اسمه، فالمؤكد أن الناس الذين يتعاملون مع الأرض، هم أكثر الشرائح المجتمعية طيبة، فالمزارع الذي يتعامل مع الأرض ويفتح لها قلبه، ويبثها حنينه وعناءه وتعبه وفرحه، الأرض جديرة بأن تمتص كل هذا في طبقات تربتها، وتمنحه ثماراً وحبوباً وخضاراً تسعد بها الحياة، وأظن أن هذا البرنامج الذي نال شهرة عريضة، واستمر لزمنٍ طويل قبل أن يتوقف، لكن علاقتي بمقدمه ومعده الأستاذ عبد الكريم محمود الخطيب، لم تتوقف في محطة زيارته لقريتي النائية قبل نصف قرن من الزمن، وكنت لم ألتق به ولم يتم لي الشرف بمعرفته حينها، فقد رسمت لنا الأقدار أن أنتظره الآن، نصلي فيها كل صلاة كل جمعة بعد ما اكتشفنا أننا جيران، وأحظى برؤية الناس الكبار في السن، يسلمون عليه وعلى زميله مخرج البرنامج الشهير الأستاذ حمد الصبي، يا لها من أيام حينما تطوى، وترى ردود فعلها في وجوه الناس، محبة وتقديراً واحتراماً..
ويحدثني الأستاذ الخطيب عن بعض الإشكاليات التي واجهته، فإذا كان الناس في قريتي النائية رقصوا وطربوا وأكلوا، واتخذوا من تاريخ زيارة البرنامج لهم موعداً، يحددون ما قبل تلك وما بعدها، لكن الناس في مناطق أخرى رفضوا وجوده، فقد أصدر معالي وزير الإعلام حينها، كما حكى لي الأستاذ الخطيب ذات مساء، ضرورة سفر البرنامج إلى منطقة القصيم، فقد وجد وفد الإذاعة الذي اتجه إلى منطقة القصيم، ليجري لقاءات لحلقات البرنامج هناك، أناساً تعترض وجودهم خارج المنطقة بأربعين كيلاً، ويطلبون منهم تغطية سيارة الإذاعة بشراعٍ، والبقاء حيث هم وسيجلبون لهم نماذج من المزارعين، ويتم إجراء اللقاء معهم، ومغادرة المنطقة مباشرة، دون كشف شراع سيارة الإذاعة نهائياً!
الأستاذ عبد الكريم الخطيب يجسّد نوعية المثقف الموسوعي، هذه النوعية من المثقفين كانت هي السائدة، المثقف الذي يلم بطرف من كل شيء، فالأستاذ الخطيب كتب عن فضاء الساحل الغربي الشمالي من المملكة، وتناولها بالتوثيق بالذات مسقط رأسه في مدن منطقة ينبع، وسجل لبعض رجالاتها الذين تعاقبوا على إدارتها من الأشراف، والتحولات التي شهدتها تلك المنطقة عبر العصور، وقد أصدر عدداً من الكتب القيمة المتنوعة، لا شك ستصبح مصدراً تاريخياً مهماً للأجيال لهذه المنطقة.
لكن ما يلفت الانتباه أن الأستاذ الخطيب، قد ولج العالم الفني السردي الذي يعنيني هنا أكثر من العالم التوثيقي، ويوجد بين يدي روايتان له، هما سوق الليل، وسواد الليل، ويصر الكتاب على الإشارة إلى أنهما روايات اجتماعية، ولعل القارئ يلاحظ هنا حضور مفردة الليل في كلا النصين، وهو ما سأحاول إلقاء الضوء عليهما، فالرواية الأولى سوق الليل رواية مكانية، وهي من الروايات النادرة التي تتخذ من فضاء الحج موضوعاً لها، وأذكر أن الصديق الناقد الأستاذ حسين بافقيه، كان يبحث خلال الأيام الماضية عن روايات تتناول الحج، لتكون مصدراً يتكئ عليه في أحد بحوثه، وسوق الليل كمكان معروف في مكة المكرمة، ويُعد من الأسواق الذائعة الصيت، آمل أن يحتفظ بالاسم لكي لا تمحوه التحولات التي تأتي بداعي فعل التنمية والتطوير، وتلحق بما سبقها من تحولات في العاصمة المقدسة وتغيب كثيراً من الشواهد الحضارية.
سوق الليل الرواية التي تنتمي إلى تاريخ 1962 م، تروي حكاية مطوف ورث المهنة عن والده، ويريد أن يكمل المسيرة ويخدم حجاج بيت الله الحرام، فتنقل لنا الرواية بعضاً من تلك المظاهر في العاصمة المقدسة، ورسم صورة الحج الذي يحرك الحياة، ويجعل النشاط يدبُ في كل جوانبها، فينتشر سكان مكة في شوارعها، ينفضون التراب عن حوانيتهم ويجددون واجهاتها، وتسعدُ الأسواق لجذب المشترين إليها، وتجهز المطاعم الأطعمة من كل لون من طعام وشراب، وينتشر الصيارفة في الطرقات لتبادل العملات، وتضاء الشوارع بالأتاريك والسقاءون يجهزون قربهم وأوانيهم، ليسقوا الحجاج من عين زبيدة التي تسيل في معظم شوارع مكة.
لكن الرواية التي تحمل إشارة إلى أنها اجتماعية، سرعان ما تتحول في نسيجها إلى رواية سياسية، وبطل الرواية الذي كان طموحه أن يحمل همّ الطوافة، وينجح في المهنة التي ورثها عن والده، وكان جلّ حجاجه من مصر كالعادة وهي إشارة ذكية من الكاتب، تُنبئ عن العلاقة التاريخية الوثيقة بين مصر والحجاز، وربما وجدت كثير صور من هذه العلاقات التاريخية في كتب المؤلف التوثيقية، لكن أن تتسلل عبر عمل سردي فلا بد أن نتأمل ونحلل هذه الدلالة.
عبد العزيز علي بطل رواية سوق الليل، ارتبط بزواج من ابنة حاج صعيدي مصري وتاجر بالقطن، والكاتب يراوح بالمتلقي بين الصعيد والإسكندرية ومكة والسويس، يورد حكايات متنوعة مزيج العادات والأعمال المجتمعية والتجارية، ولكن تلك السعادة لم تتم بعد إنجاب ابن لزوجين متحابين، إذ يضعنا المؤلف في عمق التأميمات الشاملة في مصر، وكأن التاريخ يعيد نفسه يذهب ضحيتها، بطل روايتنا وابنه الذي كان فجأة في مستوى الرجولة، وتصادر أملاكه ولم تسلم زوجته من سلب ذهبها، وقد فرضت على العائلة الحراسة بعد سلب أملاكها، وكانت تتم بفعل القوانين الاشتراكية وتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين.
وإذا كانت الرواية الأولى تدور أحداثها في مكة غرب الوطن، وتمتد فصولها إلى صعيد مصر، وما تلبث أن يعود بنا المؤلف إلى سوق الليل في مكة، حيث يجتمع السجين والسجان وقد جاؤوا هاربين وحجاجاً، فإن الرواية الثانية تبدأ أحداثها من شرق الوطن في منطقة حفر الباطن، لتمتد بحكم الحياة المجتمعية والانشغال بالرعي إلى حائل في شمال الوطن، ولم ينس الكاتب أن يشير في البداية أيضاً إلى أنها رواية اجتماعية، وجاءت الرواية التي تضم إلى جانبها ثمان قصص في 68 صفحة، وهي رواية قصيرة أو قصة طويلة تقليدية واقعية، يحمد للكاتب إدراكه طبيعة العمل السردي، ويبدو أنه يسجل انطباعاته وملاحظاته المشوقة، إذ يسجل في بداية الرواية اعترافه، بأنه عاش فترة من الحيرة والتردد قبل أن يبدأ في كتابة الرواية، كان ذلك التردد قد أفسد عليه حياته وأربكه، لأنه عاش أحداث الرواية ورأى كيف تحكمُ قطاعات منا تقاليد بالية لا يقرها عقل أو منطق أو دين، فقرر أن يخفف من تأثره وارتباكه وحيرته، ويتناول أحداثها دون أن ينحاز إلى أي طرف من أطرافها، فكان يراقب المسرح من بعيد فتبدو له الصورة واضحة كلما خرج من دائرة الانفعال، ليأمل إلقاء الضوء على جانب من التقاليد لتلائم الحياة المعاصرة.