هو عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت، وهو كما يقال (أبو الفلسفة الحديثة)، فمن المعروف اليوم أن الفلسفة الأوروبية المعاصرة قد اقتفت آثاره، وسارت على خطى كثير من النتائج التي توصل إليها، خاصة في بحثه الشهير (مقال في المنهج).
وقبل أن ندخل إلى كتابه أو بحثه الثمين، يحسن بنا أن نشير إلى أن تلقيبه بأبي الفلسفة الحديثة لم يأت من عبث ولا فراغ، بل نتيجة لجهوده الضخمة وإبداعه الكبير، الذي رسم بوضوح القواعد الأساسية للفلسفة ومشاكلها من خلال تصوره هو، أي آلية عمل عقله هو كفيلسوف.
والمعنى ببساطة هو أن ديكارت رسم لنفسه خط سير خاصا به، أكد كثيرًا على أنه لا يقصد منه إلزام الناس أو حثهم على اتباعه، بل يقصد وضعه أمامهم فقط؛ ولكن كثيرا من الفلاسفة الذين أتوا بعده أدركوا روعة وجمال وفائدة هذا الخط، فاتبعوه، وما زال الكثيرون يتبعونه إلى أيامنا هذه، مع وجوب الانتباه إلى أن قولنا: «يتبعونه» لا يقتضي بالضرورة أنهم جميعًا اتبعوه في كل صغيرة وكبيرة، فقد خالفه كثير من محبيه ومتبعيه في بعض المسائل والمواضيع الفرعية، بل والرئيسية أحيانًا، رغم أنهم يسيرون على نهجه في الجملة وفي الشكل العام.
لقد كان ديكارت مُصرّاً في كل ما كتبه على نقطة رئيسية هامة، وهي أنه يعمل لغاية كبيرة، وهي تكوين أو إيجاد منهج واحد دقيق يقود إلى المعرفة الصحيحة وفق خطوات واضحة محددة بعناية، وهذا ما يجعلني أقتنع تمامًا، بعد أن قضيتُ معه فترات طويلة قلّما أقضي مثلها مع غيره من الفلاسفة.. هذا ما يجعلني مقتنعا بأنه من أعظم الفلاسفة وأهمهم؛ وأكثرهم خدمة للفلسفة في التاريخ الإنساني كلّه.
ويتفق معي في هذا الكثيرون بلا شك، فقد اكتشف كثير من المهتمين بالفلسفة بعد رحيله، أنه قاد سفينتها إلى جزيرة جديدة كبيرة جميلة، وأن تأثيره عليها؛ أي على الفلسفة وتاريخها عظيم جدًا. والغريب هنا أن هذا التأثير المبهر لا يتوافق مع حياته، التي قضاها في الهروب الدائم من الجماهير والظهور العلني، فقد كان يتخفى خشية الوقوع في قبضة الكنيسة، التي كانت تطارد المفكرين المخالفين لها في تلك الأزمنة.
ولد ديكارت عام 1596م، ودرس اللاتينية والأدب القديم في إحدى المدارس الخاصة بالصفوة، ثم حصل على شهادة الدبلوم في القانون، ولكنه في نهاية المطاف تفرَّغ للرياضيات وانشغل بها، وانزوى في باريس فترة طويلة.
عمل ضابطا في جيش الأمير أورانيان في هولندا، حتى جاءه ما يوصف بالإلهام الفلسفي الحاسم، الذي تمثل في ثلاثة أحلام مركزة، رآها في منامات متتالية، أوصلتْ له رسالة مفادها أنه مكلف بإنشاء منهج عالمي، يكون أساسًا لكل العلوم والمعرفة والفلسفة.
ودعونا نستطرد قليلا هنا فأقول: لقد ظهر لي جليًا أن حكايات الإلهامات والإيحاءات والتخاطرات الروحية والإشراقات القلبية والإشارات والخلوات وأحلام المنامات والتواصلات والعلاقات الميتافيزيقية المختلفة، التي تربط الفيلسوف أو الحكيم أو المفكر أو الرمز - في كثير من الفلسفات الدينية القديمة - بالعالم الخارجي، أعني عالم (ما وراء الطبيعة).. لقد ظهر لي أنها حكايات وقصص وأخبار تكررت وتواترت كثيرًا، وجمع بين نسبة لا يستهان بها منها تحقق النجاح والظهور والانتشار والانتصار والتفوق والتميز والتمكين لأصحابها. فكثير من أولئك الفلاسفة والرموز الفكرية والروحانية حققوا إبداعات وسيطرات وبروزات كبيرة، بكتبهم ومؤلفاتهم ورسالاتهم ومنتجاتهم الثقافية والفلسفية المتعددة، بناء على إلهام خفي أو تواصل روحي أو إيحائي أو دعم ميتافيزيقي خارجي معين، وفق كيفيات وآليات متعددة مختلفة في المجال الماورائي.. وكتاب ديكارت هذا أحد هذه الأمثلة البارزة، فقد وُلدتْ فكرة تأليفه من أحلام منامات ألحَّتْ على صاحبنا، فاستجاب لذلك الإلحاح وترجم مدلوله بتأليف هذا العمل الإبداعي العظيم. ليس هذا فحسب، فقد أثر ذلك الإلهام وتلك الأحلام على ديكارت تأثيرات بالغة متنوعة، تجاوزت تأليف كتاب أو كتب، فأوقف بقية حياته على الفلسفة، وامتد ذلك إلى زيادة الاهتمام بالعلوم أيضًا، فأجرى بنفسه عدداً كبيرًا من التجارب، في مجال الطب والعلوم الطبيعية والهندسة، مع استمراره أيضًا في دراسة الرياضيات، وكل ذلك من أجل الوصول إلى غايته الكبرى، وهي التوصل إلى المنهج العلمي العالمي.
كان ديكارت مقتنعًا - ككثيرين غيره منهم جاليليو - بأن القوانين الطبيعية يُعبّرُ عنها كالقوانين الرياضية تمامًا، أي أن التعبير عنها يتم في صورة علاقات الأعداد، ولذلك يُنظر إلى ديكارت اليوم، بأنه الفيلسوف المؤمن بأن العالم (يمكن حسابه) بكل ما تعنيه الكلمة من معنى دقيق.
يصنف ديكارت على أنه فيلسوف مثالي، وهذا لا يعني أنه كان بعيدًا عن الواقعية كما يظن البعض، بل أرى أن المتأمل في فلسفته يجد فيها - أيضًا - الكثير مما يدور في فلك الفلسفة الواقعية.. كيف لا وهو الذي أجرى كلَّ تلك التجارب والدراسات، التي اجتهد فيها للوصول إلى معارف مميزة حول الإنسان وكل ما يحيط به في هذا الكون.. وقد خرج منها بحصيلة ضخمة من النتائج العامة الشاملة، نتيجة تأملاته الواسعة المركزة الكثيرة، ولذلك لا نستغرب من نعته بمؤسس الفلسفة الحديثة؛ فالكل يعلم أنه أقام كياناً فلسفيًا عالياً واضحَ المعالم، لم يتمكن أحد من إقامة مثله منذ عصر فيلسوف اليونان القديم أرسطو طاليس وحتى عصر ديكارت.
إن الرؤية الذهنية الواضحة هي مقياس صحة الفكرة عند ديكارت، فالحقيقة دائما تقوم عنده في داخل العقل اليقظ لا خارجه، فبالذهن لا بالحواس يمكننا معرفة كل الأشياء، بما فيها الخارجية.. ورغم هذا فقد خالف ديكارت كثيرًا من المثاليين الذين يرون أن الفكر يقف خلف الوجود؛ أي أنه هو السبب فيه، حيث فرق كثيرًا بين العقل والمادة من جهة، وبين الوجود والفكر من جهة أخرى، على نحو مقارب لطريقة أفلاطون في الفصل والتفريق بينها.. ويطول شرح ذلك.
ولكنه بعد كل ذلك، وصل إلى نتيجة كبرى مفادها أنه اقتنع بجهله الكامل في الوصول إلى معارف أكيدة.. وهذا يذكرنا بكثير من أمثاله العظماء، الذين ما زادهم الخوض في بحار المعارف إلا اقتناعًا بأن الجزم أو القطع صعب بل مستحيل في غالب مجالات وميادين المعرفة في هذه الحياة، حتى فيما يظنه كثير من الناس من (البديهيات واليقينيات) وعلى رأس هؤلاء «سقراط»، الذي وصل في نهاية المطاف إلى نتيجة مشابهة لنتيجة ديكارت، تتجلى في مقولته الخالدة: «كل الذي أعرفه هو أني لا أعرف شيئا».
نتوقف هنا الآن، وسنبسّط في الجزأين القادمين - إن شاء الله - زبدة الأقسام الستة لهذا الكتاب القيّم النفيس.