من المؤكد أن مصلحة العرب تكمن في معرفتهم بواقعهم الذي لا يسرُّ عدوًّا ولا صديقًا، كما يقول الجنوبيون؛ إذ كان من المفترض أن يكونوا في خانة قيادة العالم بدلاً من أن يكونوا أتباعاً لغيرهم؛ ذلك أن الله أراد لهم المكانة الأسمى في الحياة الدنيا فتنازلوا عنها تنازلاً غير مبرر. فالعرب أمة أُنزلت عليها خاتمة الديانات الإسلامية، على رجل صادق ونبيل منهم، متضمنة قيماً سامية ومثلاً عليا، وأسفر نزوله عن دخول الناس فيه أفواجاً عبر سنوات قليلة من التاريخ، بعدما علموا بعظمة الرسالة المحمدية؛ لأنها الأكثر تحضراً، ثم ما لبثت أن دخلت في نفق مظلم بفعل انحراف مسؤوليها عن جادة الصواب، وبأسلوب «كلما دخلت أمة لعنت أختها»، حد أننا ننفر من تذكر ما نتج على أيدي العرب ضد بعضهم من مآسٍ، تقشعر لها الأبدان، ولا أدل على ذلك من رمي خصوم المسؤولين في التنور الملتهب وهم أحياء، أو نشرهم بالمناشير حتى ينقسم الرجل إلى شطرين، وكأن العرب شعب لا يرغب في التحضر، ولا يطيق العدل والإحسان الذي تدعو إليه رسالة السماء، وكأنهم مجبولون على الفوضى، فتعاقبت عليهم صور من الخيبة والتخلف، وكان طبيعياً أن تنحدر عبر السنين إلى الحضيض. ولعل العرب هم المعنيون بمصطلح «عصور الانحطاط» أكثر من غيرهم، ولا يشفع لهم إلا النزر اليسير من الإنجاز الذي لا يتعدى ما يمكن أن يكون من قبيل ذر الرماد في العيون، الذي يعد خداعاً ومراوغة كي يستمر الفساد على أشده. ولأن كل صور الفساد يتبع بعضها بعضاً، فقد تعاقبت عبر الزمن كما تتعاقب حالات الإنجاز في العالم الغربي الذي لم يُبعث فيه رسول، ولم تُنزّل فيه رسالة سماوية. فأي خلل فادح هذا الذي أصاب العرب إن لم يكن عماوة البصيرة التي أضاعوا بواسطتها موروثهم الحضاري؟ وأي سقوط أودى بهم في مهاوي الردى؟!
إن ما حدث لا يعدو أن يكون ثمرة لتخبط المسؤولين العرب منذ قرون كثيرة من التاريخ الإسلامي، وهو تخبط مصحوب باستبداد رهيب، لا يقوى معه المصلحون حتى على النصح خوفاً من أن يواجهوا القتل بأبشع صوره، أو السجن مدى الحياة، كما حدث للتابعي سعيد بن جبير، وحدث لأحمد بن حنبل وابن تيمية، وغيرهم. فأنَّى لأمة استشرى فيها الفساد والاستبداد أن تنهض إلا إذا حدثت معجزة غير متصورة في أذهان العرب المعاصرين. وحتى هذه ليس مسموحاً بتصورها، فضلاً عن المشاركة في صنعها؛ لأنها تعتبر طاعوناً في نظر أهل الحل والعقد المستفيدين من بقاء الحال على ما هي عليه. ثم يأتي من يتشدق بتحضر العرب من لدن شهود الزور والمغالطين، وفي طليعتهم الإعلام العربي الذي أقل ما يقال فيه إنه مزور للحقائق باحتراف منقطع النظير. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
صـورة:
«متى يبلغ البنيان يوماً كماله
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم»