(أ)
مرّة أخرى وفي أيّ مقامٍ يناقش فيه الخطاب الديني - السياسي أجدني على الاضطرار مستنداً إلى مرجعيّة: (ويكون الدين لله) فما أُقصي دلالتها - أنّ لا أحداً يمثّل الدين، ومَنْ يفعل فقد وقع في حالة: (قميص الدين) والكناية على دلالتين: (أ) دلالة تمثيل الله في السلطات والاستبداد بها باسمه، وهي الحالة الفرعونيّة التي جاء الإسلام العربي باكراً للوقوف بوجهها وإزالتها.. (ب) دلالة استغلالٍ وتحايلٍ في إبداء هدف وإخفاء آخر.
وكلا الدلالتين مستمدّتين ممّا عُرف تاريخياً (بقميص عثمان) فيما أُسمي (الفتنة الكبرى)؛ فمرّة كان يُشار إلى (قميص عثمان) الذي رُفعَ حجّة ورايةً في الأحداث التي أعقبت مقتله، طلباً للثأر علانيّة وهدفاً للانشقاق نيّة وتقيّة، وهذا التذرّعُ ليس إحقاقاً للعدالة في تصوّر صاحب الثأر والتذرّع، إنّما لتحقيق غاية أخرى ما كان ليحقّقها إذا لم يستغلّ حدثاً جللاً كمقتل الخليفة - أمير المؤمنين.. ومرّة يشار إلى القميص على الزعم أنّه بداية الحادثة التي أودت به، وما يُنسب - على ذمّة مرويّات في التاريخ - من خلاف نشب على السلطة، وما تردّد من قولٍ منسوبٍ: «والله لا أنزعُ قميصاً قمّصني إيّاهُ اللهُ».
وأيّاً تكن مصداقيّة العبارة المنسوبة والمنحولة، فإنّنا ها هنا في وارد قراءة دلالات المقولة، ولماذا راهن صانع العبارة على إثارة الصفوة الإسلاميّة العربيّة حينذاك؟ ولسنا في وارد قراءة شواهدها التاريخيّة والتورّط بمحاكمات لنصرة مذهب على آخر وتثبيت أو نفي المقولة، فما ذلك مقصدنا أو مقام كلامنا، كما أنّنا أصلاً وفصلاً لا نقدّس التاريخ وأحداثه ورواته ومرويّاته، لكنّ الإشارة للمقولة فاتحة استدلاليّة استشهاديّة في إدراك العربيّ عند الرعيل الأوّل بمخاطر استغلال الدين إلى السياسة لاكتساب شرعيّة إضافيّة (فوقانيّة: بمعنى السلطة والجمع بين الدين والسياسة وليس بمعنى السمو وفصل الدين عن السياسة).
إنّ التأمّل في عبارة (القميص) يلاحظ أنّ صانعها وصائغها -كنقطةٍ حاسمة في حكاية الفتنة الكبرى - يدرك جيّداً أنّ العموم العربي الإسلامي الموجّه لهم الحكاية يدركون أو الصفوة منهم، ما جاءت به رسالة النبي العربي عليه السلام من دعوتين دينونيّة - الدين (إرجاع الدين كلّه لله وعدم جواز تمثيله من قبل أحد)، ودنيويّة - الدنيا: (سياسة الدنيا بمستجدات وأدوات الدنيا دون استغلال كهنوت وقداسة)، وهو ما يعني خلع قميص الدين والتقديس عن الحكّام وولاة الأمر، ولذلك كان الرهان في صناعة العبارة أنّها سوف تستقبل على دلالة الاستنكار، وكأنّ قائلها آت بشيء نُكُرا، وهو ما يدلّل إدراك الرعيل الأوّل بالحدّ الأدنى أنّ أصلاً في الدين قائمٌ على إزاحة القداسة عن الحاكم، وأنّ قميص الدين من الفداحة أنّه يلبس الديني بالدنيويّ فيعطّل الدنيّا ويمزّق الدين، وهذا اللبس والتقمّص كان بحدّ ذاته محلّ استنكار ورفض من قبل العربي الإسلامي الأوّل.
(ب)
حمل الإسلام في رسالته الدنيويّة أهم إصلاحٍ سياسيّ يفصل الدين عن الدنيا، وذلك بنزع حالة القداسة عن الحاكم وإعادته إلى واقعه الأرضي حاكماً للناس - وبين الناس - ومحكوماً بهم بوصفهم أصحاب البيعة؛ ونصوص المتن في سرده للقصّة الفرعونيّة وتمثيل عرضها وإبراز حواراتها بطرق متعدّدة كان غاية في الإطاحة بفساد مفهوم تأليه الحاكم، ونزع أوهام وضلالات الألوهيّة عنه وتثبيتها لله وحده، وإعادة الحاكم إلى حيث ينتمي، إلى الإنسان، حيث منطق العمل وقيمته الإنسانيّة، وما يحمل العمل بحدّ ذاته من قيم الصواب والخطأ والمراجعة والنقد والتعدّد؛ وبذلك خلع قميص الدين عن الكيان والسياسة، بحيث أبعده عن الاستغلال والملكيّة والتلاعب به في أمور الكيان، وأسكنه في قلب الفرد وسلوكه.
(ج)
إنَّ محلّ الدعوة إلى الدولة هو التشريعات وتمكينها تنفيذاً في الواقع، حتّى تحقّق أهدافها في إزاحة استغلال الدين والسياسة في الخطاب الديني - السياسي، وفي خطاب مؤسّسات المجتمع المدني التي تأسّست عشوائيّاً على مفهومٍ يستغلّ الدين في الأعمال الاجتماعيّة وبعضها تأسّس كأذرعة لحركات دينيّة سياسيّة.. وحينما يكون إبعاد استغلال الدين ليس إجراءً ارتجاليّاً، وآنياً بل إجراءً يستند إلى تحصين تشريعي ودستوري، إذّاك فإنّ منظومة العمل السياسي المدني والوطني تستحدث بيئة يُشاع فيها مفهوم السياسي الإنساني الواقعي بما يتضمّنه من (عمل خاضع للصواب والخطأ والنقد والمراجعة) وهو مفهومٌ واقعيّ يُراد له أن يطغى على مفاهيم يقدّمها خطاب الديني - السياسي، ممّا يسدّ على الحركات المعارضة الدينيّة أن تجد بيئة حاضنة للخلط السياسي والديني في خطاب جماهيري تعبوي.
ولذلك، فإنّ على الأنظمة السياسية العربية أن تتوقّف عن استغلال الدين قميصاً شرعيّاً لها، وأن تبدأ خطاباً على المستوى الاجتماعيّ يحدّ من استغلال الدين في الفضاء السياسي، حينذاك فإنّ الحركات المعارضة لن يفلح خطابها إذا عاودت استغلال الدين لتعبئة الجماهير (إلا على قدر غفلان السلطات السياسيّة عن هذه المساحات التي يدخل منها الاستغلال الديني)، ذلك أن أكثريّات العموم تتأثّر بالتشريعات الدستوريّة المحصّنة إذا ما تمّ نقلها واستيعابها على أنّها حاضنة وآمنة للسلم الأهلي وواقعة في التنفيذ لا نائمة في (إضبارات كتابة مواد الدستور) فالتنفيذ هو القوّة الحيّة للدستور والتشريعات؛ فإن حصّن الأنظمة السياسية شرعيتها برضا الناس وقبولهم في خطاب عمومي وطني ولم تحتج إلى لعبة (الختم الديني - السياسي) فإنّها حينذاك تسقط عن خصومها في خطابهم حجّة استغلال الديني - السياسي، ذلك أنّ قميص الدين لم يعد من مسؤوليّة السلطة بعد أن خلعته وجرّمت استغلاله.. هكذا يتحوّل الصراع إلى جدل لا يستند إلى إقناع الأكثريّات - العموميّة حينما ترى خطابين: (خطاب عمومي دنيوي يشتمل الأطراف فيه لأنّه وعاء لا يجنح في مضمونه إلى التطرّف، وينزع عن نفسه قميص الدين ويمثّل الدنيا ويحافظ على حقوق الناس بالمساواة والمواطنة وحقوق معتقداتهم الدينيّة وأعراضهم، وخطاب أحاديّ وحادٍ لا يقدر مضمونه أن يتخلّص من التطرّف، يتلبّس قميص الدين ويمثّله غصباً ويفرّق في خطابه بين الناس وحقوقهم ولا يحافظ على حقوق المعتقد، حتى أولئك الذين يشاركونه المعتقد عينه، إن لم يكونوا أتباعاً له وحاملي ما يحمله من تصوّرات ومفاهيم في خطابه الذي قدّمنا نقداً لمقولاته في المقالات السابقة).
ولذلك فإنّ وجود خطاب وطني عمومي يستند علانيّة إلى مفهوم في الشرعيّة مرجعها رضا الناس يلغي الحالة التقابليّة التنافسيّة على الشرعيّة الدينيّة بين الأنظمة السياسيّة ودعاة الخطاب الديني - السياسي.. وهو مرجع ضروري في فضّ النزاع، وتحويله من نزاع له ما يحرّكه في الواقع، إلى صراع من طرفٍ واحدٍ يفتقد إلى ما يمثّله على الواقع، والمسألة في ظنّي محلها مفهوم الشرعيّة السياسيّة، فإذا كانت الأنظمة تقدّم للناس مفهوماً للشرعية يتمثّل على استنادات دينيّة فإنها تحرّك الصراع بين أطراف عدّة تدّعي أحقيّتها وشرعيّتها في التمثيل والشرعية بناءً على منازعات وافتراءات دينيّة، وهو ما يؤثر على السلم الأهلي بين مكوّنات أيّ دولة، وهو واقع الحال في العديد من أنظمة الدولة العربية، وإذا ما قامت الأنظمة على مفهوم يستند إلى رضا الناس ومكونات الدولة جميعةً، فإنّ الخطاب الديني - السياسي يفقد الواقع الذي يمكن أن يستند إليه في خطابه، ويصبح خطابه غير تقابلي إنّما صراع محض جذري، وكلّ صراع محض جذريّ لا يستند على واقعٍ فإنّه لا محالة إلى خفوتٍ، لأنّ العموم العربي يكون حينذاك في انفصال عن هذا الخطاب الذي يُنعت أنّه غير واقعي، ونحن لا يمكن نعت الخطاب الديني - السياسي غير واقعي الآن، لطالما أنّ الواقع العربي اليوم يستند على مراجع ومفاهيم تناصر وتغذّي هذا الخطاب ولا تجعله يبدو غير واقعي، على الرغم من غيابته وغيابه.
فإذا تغيّر الواقع ليصبح إنتاجاً وطنياً عمومياً قائماً على مفهومٍ قويمٍ في الشرعية السياسية لا تستند إلى مراجع إنسانية دينيّة تاريخيّة مراحليّة، فإنّ العموم العربي لن يكون أمام خطاب ديني - سياسي يتصارع فيه الطرفان على (أرجوحة الاعتدال والتطرّف)، وهي الأرجوحة التي تجعل أكثريّات العموم العربي تميل إلى التطرّف؛ وهنا مسألة في غاية الخطورة: (لماذا تميل الأكثريات في البيئة أو الواقع الحاضن إلى خطاب التطرّف أكثر من خطاب الاعتدال؟)
ذلك لأنّ كلا الخطابين يعودان إلى المراجع عينها، وكلاهما يتبنّى الجمع بين السياسة والدين، وبالتالي يكون التطرّف هو الممثّل الأكثر التزاماً بمضمون المرجع وما تمّ اقتصاصه على نيّة استغلاله لدى الطرفين، أمّا حينما تكون المسألة بين: هل يجوز أن يكون للدين ممثلون يخلطون طهره وقدسه بدنس الدنيا وتقلّباتها السياسيّة، وحينما يكون الصراع بين من يؤمن أنّه يعمل باسمه في الحفاظ على الدنيا والدين، وبين من يدّعي (أنه) يعمل باسم الله، فإنّ النتائج ليست على الحالة نفسها في الحالتين!.