من السهل جداً جمع أشتات مختلفة من فتاوى تحريم أشياء مختلفة من العادات والبضائع المختلفة في التاريخ الإسلامي.. وكثرت النقاشات حول ظاهرة التحريم تلك.. وكتب عنها كثيرون قديماً وحديثاً وكان منهم مؤخراً الصديق الأستاذ عبدالله العتيق في «ثقافة التحريم» حيث رصد عقلية التحريم وأسبابها وقدّم مرافعة مهمة لنقد هذه الظاهرة.
وهنا لن أحاول الحديث عن ذات القضية من ذات المأخذ، لكن من نظرة سريعة يظهر أن فكرة التحريم تلك تزداد بشكل طردي مع ازداياد لحظات الاحتكاك الثقافي بالآخرين والخوف من الاحتلال الثقافي أو الاستعمار الثقافي الذي يبدو دائماً كرديف خفي وخطر للاستعمار والاحتلال المباشر..كما رصده كثيرون مثل إدوارد سعيد في «الاستشراق» و»الثقافة والإمبريالية».
فكلما ازدادت حالات الخوف من الآخرين ولحظات الرهبة من الاستعمار الثقافي كلما ازدادت ظاهرة التحريم كنوع من الدفاع الثقافي عن النفس عبر الاستخدام الفقهي للآليات المتاحة ضمن القواعد العامة في النهي عن التشبه بالآخرين و»التشبه بالكفار» و تقليد اليهود والنصارى..وأشباهها من حالات الدفاع عن التقاليد الدينية والثقافية للمجتمع ضد الاستلاب وعمليات التحويل المخيفة.
ولنأخذ القهوة كمثال حاضر. مع أن القهوة عربية أصيلة كما عبّر الشاعر صالح جزا الحربي
«هذه القهوةُ تُدعى العربية
قد ورثناها من التاريخ ِ
سمراءَ نقية
فتعلّمْ كيف تصبرْ
كلَّ مرة
يا بنيَ
قهوةُ الأجدادِ حُرَّة
أيُّ طعمٍ ٍ
يتبقى عندما لا تصبحُ القهوةُ
مُرَّة..! »
كانت القهوة مولوداً عربياً يمنياً.. لم يجد العرب مشكلة فيها إلا حينما عادت من أوروبا في أيام الدولة العثمانية.. وحينها حينما كانت القيادة الثقافية الدينية تعبّر عن رفضها للاستعمار الاستهلاكي للقهوة عبر التحريم قرر مفتي الدولة العثمانية عام 972هـ تحريم القهوة فكانوا يلقونها في البحر بناءً على فتوى أبي السعود أفندي شيخ الإسلام في الدولة العثمانية آنذاك.
ولأن أهم اشكال الاحتكاك في لحظة ما..والاستلاب لثقافة ما هو التعلم العام للغتها.. قرر كثير من الفقهاء في لحظات الاحتكاك الثقافي تحريم تعلم اللغات الأجنبية حتى أن السلطان العثماني محمود قرر أن يتعلم الفرنسية سراً خوفاً من حملات التحريم ضد تعلم اللغات الأوربية في ذلك الوقت.
وفي ذات السياق، فإن بعض علماء المغرب في القرن التاسع عشر مارسوا الشيء ذاته عبر تحريم الشاي لأنه كان بضاعة أوربية في ذلك الوقت وكانت وسيلة ثقافية خطرة تتسلل منها المنتجات الأوربية للمغرب، وكانت تلك الفتاوى أشبه بقرار مقاطعة مدعوم فقهياً ضد المنتجات الأوربية الغازية في المغرب والتي جاءت مع الاحتلال والاستعمار الفرنسي للمغرب.
وفي إيران حينما كان نسبة جيدة من الإيرانيين يعملون في مصانع التبغ الإيرانية.. وقرر الملك منح احتكار صناعة التبغ لشركات بريطانية وأجنبية.. جاءت فتوى محمد حسن الشيرازي سنة 1309هـ في تحريم التبغ (التباك/الدخان) لأنه «يستخدم في محاربة الإسلام».. وكانت تلك آثار ماسمي حينها بثورة التبغ في 1308هـ.
وهذه البضاعات التي كانت ممرا للثقافات الأجنبية أو هكذا تم رؤيتها في حينها.. تم التعامل معها كجسر رخيص للاستعمار الثقافي والقيمي.. ذلك الذي تحدث عنه الشاعر اليمني الكبير البردوني تماماً حينما تعامل مع تلك البضائع كأدوات استهلاكية للمستعمر والأجنبي.. لذلك قال البردوني:
غــزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري... فقد يأتون تبغا في سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشي يؤنسن وجهه الصخري... وفي أهداب أنثى في مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ وتحت عمامة المقري... وفي أقراص منع الحمل وفي أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان وفي عبثية العمر... وفي عَود احتلال الأمس في تشكيله العصري
وفي قنينة الوسكي وفي قارورة العطر... ويستخفون في جلدي وينسلون من شعري
وفوق وجوههم وجهي ونحت خيولهم ظهري... غزاة اليوم كالطاعون يخفى وهو يستشري
وليس عبثاً أن يتحدث البردّوني عن «قارورة العطر» و «تبغ السجائر» و»مناديل» و»أنبوبة الحبر».. لأنها كانت مجالات الاستهلاك اليومي الذي لم ينتج العالم العرب والإسلامي فيها بضائعه المنافسة وقتها.. لذلك كان رهين القدرة الصناعية العسكرية والسياسية لذلك الصانع الغربي.. ومن هنا، كانت الوسيلة الثقافية للتعامل مع قضايا الرأي العام هو سلاح الفقه الذي حاول حماية المجتمع عن طريق التحريم بحسب هذه الرؤية.
وأخيراً، هذا المقال لا أحاول فيه ممارسة النقد والتبخيس..ولا التبرير والتقديس..بل هو محاولة أوّلية لفهم دوافع التحريم لبضائع ومنتجات وأشياء معينة والتي تزداد خصوصاً في أجواء الصراع الثقافي وفي حالة التخوف من استعمار أجنبي وثقافي يستخدم كل إمكانياته من بضائع وصناعات وأفكار ومفردات وشخوص.