رسالة وعي شعري تسجيل عمق المعاناة وتحولاتها
ينتقي الشاعر فيصل أكرم من بين أحزانه وقصائده هذه الاضمامة الشعرية المتميزة، ليسمها بعنوان حمل اسم القصيدة الأولى في الديوان «نزعة» فيلتقط الشاعر ما رق من مفردات البوح الشاكي، ورفرفات الحنين إلى زمن أجمل، وتجليات الرؤية نحو أفق بعيد لا تدركه إلا أرواح القصائد وتعبها المر، على الرغم مما يبسطه الفأل بسانح وعد مخضل .. عله يغير وجه حياته الغارق بالمعانة والفقد.
القصيدة الأولى في هذا الديوان «نزعة» تحمل في استهلالها وجع الأسئلة، ومكامن الولع بمزيد من الألم وتزاحم الوجدان على قلب الشاعر الذي لم يجد بداً من بوح لاعج:
«قس على هذا العذاب
من كل أسئلة الذين تحبهم
من كان يسأل عن غريب
قد تولاه الغياب..»؟!
فالغياب فاجع، والسؤال عنه يثير في الروح مكامن الألم .. فلا أقسى من معاناة شاعر يحصي أحزان السنين، ويقيس العمر بحجم ما عاناه وما أبكاه، وما كابده من عناء لاجلهم .. فالأسئلة والإجابات مثقلة بألم الموقف وضياع الهدى وحيرة القلب إلى أي جهة يميل ولاؤه نحوها؟!
لا يجد الشاعر بداً من رغبة الخلاص والتقدم نحو أمل ممكن يقاوم فيه لواعج فقده الضافي وحزنه العميم، فلا شيء غير لحظة التنوير في القصيدة لتكون مخرجاً من دوامة أسئلته ومعاناته:
«فانزع سوادك من زحام
المثقلين من السواد.
لتستمد من الفضاء بياضه
كبياض قلبك.. ثم نم..»
فالقصيدة الفاتحة في هذا الديوان تسجيل عميق لمعاناة لا تزال تقيم مضاربها على فلاة قلب الشاعر، فلا تنوي التنائي أو الرحيل .. فأحزان الشاعر يبدو أنها مقيمة في تفاصيل حياته، فالمتأمل في تجربة فيصل أكرم الشعرية لا بد أن تستوقفك حالة من الحزن العظيم .. تلك التي تمتد على مساحة من البوح والوجدان المخضل دائماً بسيرة مفادها أن الحزن عطر الرجل، وإن الغربة وإن قست هي فرصة للتمايز عن أحزان من حوله لكيلا تشب حرائق الخلائق والأمكنة.
لغة الديوان محملة على ما لدى الشاعر من مكنون لفظي متميز، تتوارد على اللسان المتدفق بمقولات جزال، وصور من براءة ومشاهدات حالمة يستعين فيها على تجاوز محطات العزلة واليأس والخواء والعجز الذي يزحزحه للخلوص من المنغصات.
فالشاعر هنا سلاحه الشعر واللغة الحالمة والمفردة التي تحيك تفاصيلها بشكلٍ مدهش لتصنع للقارئ قماشة ملونة تكثر فيها الخيوط وتتعدد فيها الألوان ليصنع منها مشهد الحياة بكل تماوجه وتفاصيله ومشاهده المشبعة بالتناقض والتباين، إلا أنه يبرع دائماً في موائمة الحياة وما سواها لتظهر في أفق القصيدة احتمالات البقاء والعيش بسلام مع ما حولنا.
هوية القصائد في هذا الديوان تنحو في مجملها إلى ترسيخ ذاكرة الهم الإنساني المشبع بالتجارب والممارسات الحياتية الصادمة والأليمة، لتطالع بعد فراغك من قراءة كل قصيدة في الديوان أن الشاعر قد غمسها
في نهر المعاناة، أملاً في عتقها وبرئها، إلا أنها تخرج كما كانت مشحونة بهم لاعج .. فالعناء والعناد والمكابرة أمام الشقاء والألم جعل من الشاعر محارباً ماهراً وصبوراً في جدل الحياة:
«إلى أين يمضي بك الصبر؟
هذا أوان التخطي على جمرة النفس
فادعس على قلبك الآن
ارفع لياليك عن كل ضوء وأطفئ نهارك
فلا نجمة سوف تهدى لك»
فلا شيء تمسك فيه من معاني البقاء معانداً الطول أمد ممكن غير السعي الدائب للبحث عن دواء لآلام الفقد، فلا غير القصيدة يمكن لها أن تكون هي الدواء لقلب شاعر هده العناء منذ أن كتب أول حرف في قصائده المعبأة بحكمة الصبر على مكاره الحب والحنين والغربة واليأس والوعود المطفأة، وكم لا بأس به من فأل يقرب مسافات الوجد بين قلب الشاعر وعقله.
رسالة الديوان حوت العديد من صور الوعي، تمثلت الكثير من مفاهيم الحياة التي لا تزال تبحث عن ذاته، وتجيب قدر المستطاع عن أسئلة حية ومتوقدة في الشعور الإنساني الذي يسعى إلى التخلص من منغصاته.. فلا شيء غير الشعر يمكن أن يداوي جراحات الشاعر العربي المجبول دائماً على ألم ووعي ..
** ** **
إشارة:
- نزعة ( شعر)
- فيصل أكرم
- دار ـ كلمات عربية ـ القاهرة 2014م
- يقع الديوان في نحو (110 صفحات) من القطع المتوسط