تبدو القراءة لوديع سعادة «فعلًا تأريخيًا»من جانبين، عبر الانفتاح على تأريخ الشاعر لذاته في نصوصه، وعلى تأريخ القارئ لنفسه، وهذا الأخير يظهر بشكلٍ أكثر اتساعًا ورحابةً في تجربة سعادة لأنه يُعنى بالتفاصيل الصغيرة التي لا تهم أحدًا لكنها تهم الجميع في الوقت نفسه، ليس في الأمر معادلةٌ كيميائيةٌ.. إنها الحياة ببساطة “C’est la vie”!
يمضي الاحتفاءُ المكثّفُ بالطبيعةِ دون أن يكونَ مهرجانيًا صاخبًا، بل على العكس يسير هادئًا متخمًا باليوميات الحية التي تتكرّر في رتابةٍ، مما يجعلها «لحظاتٍ ميتةً»_وهو العنوان الذي منحه للنص محل القراءة في ديوانه بسبب غيمة على الأرجح الصادر عام 1992_ في عينِ الشاعر بالرغم من الحركةِ التي تشيع فيها كحركةِ العمالِ الذين يطل عليهم من النافذة والمطرِ المنهمرِ ويده التي ترتفع لترتّب شَـعره، ويظل جو السكون مهيمنًا على «اللحظات»، ربما لأن كل هذه الحركة لا تفعل شيئًا كثيرًا بمعنى أنها لا تغير العالم كما يجب! ويتصاعد هذا السكون حين يصرّح وديع سعادة أنه لن يفعل شيئًا هذا اليوم، ثم يتبع قراراه بسلسلةٍ من الأفعال فيقول:»ماذا سأفعلُ اليوم؟ ليسَ في نيَّتي فعلُ شيءٍ ولستُ مضطرًّا لفعلِ شيء. يمكنني على الأرجح أن أعْقِدَ صداقةً، من هنا من وراءِ الزجاج، مع هؤلاءِ الناسِ في الشارع. لا يزالُ النهارُ في أوَّلِهِ وبضعُ دقائقَ من الصداقة تكفي اليوم. بعد ذلك يجبُ أن أخرجَ إلى الشرفةِ وأسقي الزهورَ، ويجبُ، ربما، أن أتمشَّى قليلاً في المدينةِ وأجلبَ قنِّينةَ عرق»، ومرةً أخرى يبدو أنه غير مقتنعٍ بأثر هذه الأفعال لأنه سيظل في دائرةٍ ضيقة.
يقول وديع سعادة في أحد حواراته:» صحيحٌ أن الماضي والذكرى موجودان بقوةٍ في شعري، لكني بالقوةِ ذاتها جعلتُ منهما فضاءً رحبًا في الحاضر، أعدتُ بهما اختراع طفولةٍ جديدةٍ ولو بالوهم»، فالذكريات التي هي لا بد رديفةٌ للماضي بشكلٍ ما تحتل جزءًا من جسد «اللحظات الميتة»، وتقوم هذه الاستدعاءات على لقطةٍ تحرّض الذاكرةَ لتجودَ، فهو مثلًا حين يمرّر يدَه على قدمهِ _ التي يراها وفيةً لأنها ما تزال تصاحبه أربعين عامًا_ يستدعي «فلسفته» في الأحذيةِ التي تشكلت عبر مكابداتٍ مألوفة جدًا وأصيلةٍ جدًا، فالحذاء ركيزةٌ مهمةٌ في تاريخ الفردِ وفي تاريخ الشعوب أيضًا!! يقول:» أعتقدُ أنَّ هناكَ شَرْطًا للسعادة: أن يكونَ الحذاءُ الذي ترتديهِ جديدًا. لا أعرفُ أناسًا سُعداء بأحذيةٍ عتيقة. .. ولا شكَّ أنَّ في التاريخِ شعوبًا انقرضَتْ أو أُبيدَتْ بسببِ أحذيتِها أيضًا. وأنا لا أستطيعُ أن أنكرَ أنَّ أحذيةَ إخوتي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتي: في حزني الباكرِ، وحزني اليومَ، وخجلي، وضعفي، وفشلي في الحُبِّ والحياة....» لا بدّ أن كثيرين اختبروا كل هذا، ورغم أني أتحدث هنا عن وديع سعادة، لا أعرف لماذا خطر لي الطنبوري وحذاؤه «التاريخي»الذي احتلته الرقع حتى صارت «إذا أصابتها سهامٌ تكسرت النصالُ على النصالِ» _مع الاعتذار للمتنبي_ ولهذا صار مصدرًا لمتاعبه وشقائه حتى تبرّأ منه أمام القاضي، ربما لو كان عرف فلسفة سعادة قبلًا لاختلف الأمر!
تتكرر في النص عبارةً «أظنها ستمطر» حيث بدأ بالتمهيد لأجواء المطر عبر اختفاء أشعة الشمس»بسبب غيمةٍ على الأرجح»، هذا التكرار الذي يشعر بتساقط القطرات والذي يستدعي إلى الذهن «أنشودة المطر للسياب» التي ردّد فيها لازمة «مطر» مثل الصدى، غير أنها لازمة تحمل معنى مختلفًا في نهايةِ كلِ مقطعٍ، وهنا لا يبدو الأمر مختلفًا جدًا وبخاصةٍ حين يستحضر القريةَ الشماليةَ التي طال انحباس المطر عنها، وهاجر منها الآلافُ بعد أن توقف المطر وصار الموت يهطل من السماءِ فجأةً بعد أن كانت قبل يومٍ فقط تمطر عليهم وعلى حقولهم. وهنا يعطي سعادة تفسيرًا للمطرِ يعكس فيه نظرةً «رومانسية» إن صح التعبير حين تتقاسم الطبيعةُ والشاعرُ الحزنَ حين يقول:» أظنُّها ستُمْطِرُ. الغيومُ تأتي من بعيد. على الأرجحِ من سماءِ بلدانٍ فيها مُهاجِرونَ، ورُبَّما ستَذْرِفُ هنا بعضَ دموعِهِمْ. تَلَبُّدُها يشبهُ أنفاسَ المهاجرينَ، وفي تباطُؤها فوقَ البيوتِ شيءٌ من أشواقِهِمْ. أظنُّها ستُمْطِرُ.»
يوحي النص بما تعلمناه في دروس الرسم البدائية مما يعرف بـ»الطبيعةِ الصامتةِ»، أو «المطر في المدينة»، لكنها هنا لم تكن صامتةً أبدًا كما لم تكن ميتةً، بل كانت صاخبةً بهدوء»بسبب غيمةٍ على الأرجح».