إلى عبد الكريم أبو شنب
( واحدٌ من أهل هذا السهل...
في عيد الشعير أزورُ أطلالي البهية
مثل وشم في الهوية.
وفي الربيع، أكونُ خاطرةً لسائحةٍ
ستكتبُ في بطاقات البريد:
على يسار المسرح المهجور، سوسنةٌ وشخصٌ غامضٌ
وعلى اليمين مدينةٌ عصريةٌ ).
محمود درويش
(1)
صباح نيويورك البعيد لا يحتمل غير النشاط. يافا بعيدة، غزة أبعد بكثير مما ترى العين. والحياة هنا في سانت ماري لا تذكرني بمحمود درويش قدر ما تذكرني بفلسطين وجدّة. قالوا لي وأنا طفل إن فلسطين خضراء، وحين كبرت وأصبح عقلي يلتقط الإشارات على ما هي، لم أشاهد غير الحروب التي لا تبقي ولا تذر. ومن الاخضرار الذي عبِّئ في قلبي الصغير لم تبق غير صورة العجوز التي تتمسك بشجرة الزيتون في محاولة أخيرة منها للبقاء في الأرض التي هي أرضها وأرضنا. كانت الشجرة ترتجف وفقدت أوراقها، خوف الموت يطيِّرُ حتى أوراق الشجر والعجوز ثابتة كصخرة بأوتادٍ كثيرة.
عرفتُ أنك متَّ. في بيتك في غزة، قال لي تيسير إنهم في الصباح جاؤوا إليك ووجدوك ميتاً، هكذا بصمت الليل تسللت إلى يافا، من حيث جاء أبوك وأمك، من تلك الطريق التي سلكاها ليصلا إلى غزة، لاجئان ومنهكان بلا أي أمل. لكنها محظوظان، فلتراب فلسطين رائحة واحدة، وهواءُ البحرُ في غزة منعشٌ لكن بلا زهر الليمون وبلا رطوبة الجدران العتيقة في يافا.
لا أعرفك لكني حزنت. أعلم أنك جارُ أهلي، وأنكم أصدقاء، لكني لا أعرفك ومع ذلك حزنت. كان صوت تيسير عبر الهاتف، مخمليا وينوحُ على غير عادته. وكنت أسأل عن الأسباب والدواعي التي سببت الموت ولا يصلني سوى البكاء. الموت يكسرنا لكنه على ما يقول سيوران يجعلنا (أسيادُ العالم). حتى فدوى التي يظهر أنها قادرة على التماسك، كان صوتها عبر الهاتف أشبه بخاصرة المسيح وهي تشكُ بالحراب من جنود الرومان. وكان صوتها يأتي من مكان بعيد مجوف له صدى، لا تصل كلامتها سوى متلاطمة ببعضها البعض وبجدران الحياة.
هنا في سانت ماري، علي أن أذكر رحلتي إلى غزة، قيل لي إن بيتكم قريب لبيت أهلي، لكني لا أذكر من ذلك البيت يا عبد الكريم سوى الحديقة الصغيرة وشجرة الجوافة وجدي الذي كان يضطجع في غرفته وقد سبقت الموت إليه لأراه. لا أذكر من غزة شيئا آخر، مع أني أذكر حيفا جيداً والقدس والمسجد الأقصى والناصرة ونابلس. ربما لأني أحب التسوق وفي هذه المدن أسواقاً كثيرة بينما في غزة لم يكن أمام الطفل الذي كنته سوى اللعب في الحديقة وأنا لا أحب اللعب.
لقد وصلت إلى هنا مريضاً. الطائرة التي أقلتني أقلت أيضاً فايروساً من باريس. وصلت إلى هنا بحرارة جسد قصوى ولو لم يرني طبيب مطار J.F.K لكن اليوم ربما لا زلت نائماً على أحد مقاعده. لكن موتك ذكرني بأهلي، بعمي الكبير الذي مات دون أن أراه، عمي الذي لا أعرف شكله سوى من صورة يتيمة أرسلت إلى أبي في 1979 بعد زيارتي إلى غزة بعام. أرسلها، ربما، ليقول لي عليك أن تذكر شكلي لكي لا تضيعني يوم اللقاء الكبير. لكني قابلت حفيده. إن كان لجدة المدينة أثر في قلبي فهو لقائي بحفيد عمي على كورنيشها. تفرقنا إسرائيل وتجمعنا بلاد نجد والحجاز. وربما لهذا أحب تلك البلاد وأتابع أهلها أينما كنت.
(2)
أصل إلى هنا، سانت ماري، قرية في بنسلفانيا، الغابات تحوطها من كافة الجهات، حتى البيوت هنا جزء من الغابات. ليست المرة الأولى التي آتي إلى هنا. هي الرابعة أو الخامسة على الأرجح لم أعد أذكر. وفي كل مرة أتنقل بين بيوت أهل القرية زائر غريب يجيئهم من الغيم. لكنهم مضيافون ومريحون ويحبون الكتب والثقافة. غير أن لهذه الزيارة أجواء ليست كالمرات السابقة. ودعت عبد الكريم أبو شنب الذي مات في غزة هاتفياً في فرنسا. وحين وصلت الي هنا، أول الرسائل التي كانت بانتظاري وفاة أنسي الحاج. كتبت لي زميلة من بيروت.
سيمون...
لقد توفى أنسي. مات بعد صراعه مع السرطان الذي فتك به حتى الموت. أنتظر منك أن تكتب شيئاً إننا نجهز ملحقاً خاصاً حول شاعرنا الذي نحبه.
تحياتي وإعتني بنفسك
ماذا أقول؟ أنسي الحاج مغامرة، لا يمكن الكتابة عنها بسهولة وأنا متعب جداً. كلما وصلت إلى أمريكا أذكر سركون بولص الذي مات فيها. وأنسي هناك في بيروت بعيد أيضاً. أنظر من النافذة إلى الأشجار التي في الخارج ولا أشهد سوى الحياة التي تدب في ضجيج الليل. لا لن أشارك في تأبين أنسي كتابة. لم أكن أعرفه كثيراً، ولم يكن صديقي. المرة الوحيدة التي دخلت مكتبه في النهار كان من أجل أن ينشر لي مقالة كتبتها ضده، ونشرها. بعدها لم أعد أراه، كان دائم الغياب ولا يتواجد سوى مكتبه، ونحن كنا من رواد المقاهي يكنسنا عمالها كل ليلة إلى حيث نتسرب كمياه السواقي كل في طريق حياته ونومه.
كنت أحب أنسي وكنت أكره أنسي أيضاً. كنت أحب أنسي الشاعر الذي يطرق بإزميل معدني سطح اللغة فيحولها إلى بحيرات من الحب. وكنت أكره أنسي الشاعر أيضاً الذي يتجمع حوله مرتزقة من كل نوع فيتحولون إلى عصابات لا قيمة لها. ربما كان يحب ذلك؟ لا أدري. لكن ما أعلمه أنه لم يقرع أحداً على فعل من هذا النوع، وفي سنواته الأخيرة في النهار كان بعض الكتبة المجلوبون من خارج الحدود، يحاربون غيره من الشعراء، تحت نظره ورعايته. كان يحب الحروب لكنه جنوده فيها كانوا بلا موهبة. الموهوبون كان في بيوتهم لا يفعلون ذلك من أجل أحد.
قلت لأنتظر، حفلة التأبينات غدا ستضج الصحف بها. أنسي الحاج شاعر ( لن ) ومقدمتها، لا بد أن يقال في الكثير. ماذا يقال بشخص مات؟ قرأت سمير عطالله وغسان شربل وأكتفيت. ما بقي ممن كلام كان أجوفاً وبلا أي معنى. وقلت أنتظر قداس الجنازة لعل شيئاً يتغير من كل هذا. لكن حتى هذا كان روتينياً، صلوات تقام على روحه ثم وزير الثقافة يقلده وسام الاستحقاق من رتبة فارس. مات من أجل وسام بينما هو وضع على صدر جسده عشرات آلاف النياشين وعشرات القصائد. عاش كأسطورة قبل أن ينتقل إلى الأخبار ويكتب مقالته عن فنانة النظام السوري، المقالة التي ستحفر عميقاً في وجدان الجميع. يومها قلت أنه لا يمكن لأنسي أن يقول كلاما من هذا النوع. كيف يمدح فنانة نظام هوايته تجميع جثث الأطفال والنساء على جدران دمشق. كانت المقالة سقطة أخلاقية من النوع القاتل، ثم مات أنسي وتقلد النياشين وربما رفَ جانح قلبه من رهبة الموت.
(3)
في طفولتي كنت مع أصدقاء نذهب إلى بلدة أنسي ( قيتولي ) التي ترتفع عن وادي الليمون بضعة أمتار. قيتولي التي لا تعد سوى عدة منازل حجرية قديمة على كتف الوادي العميق. لم تكن مأهولة بالكثير من الناس. قرية هامشية لشاعر ضجت به أرض لبنان. كنا نذهب إلى هناك لنغني بين مقابر قيتولي التي تعلو القرية بقليل، بعد أن نكون قد أخذنا زوادتنا من برتقال الوادي. لكن كناً أطفالاً لا نعرف أن في هذه الخشاخيش (خشخاشة - هي الغرفة التي يدفن فيها المسيحيون موتاهم) التي كنا نعرفها هكذا. سيدفن شاعر قصيدة النثر وفارسها الأول.
لم آت إلى هنا للكتابة عن عبد الكريم أبو شنب وأنسي الحاج والموت الذي يزنرُ هذه الرحلة. كنت أنوي بداية مختلفة. غير أن الموت الذي يلاحق خطواتنا يزكم الأنوف. والأشجار عالية دوماً، كما في قصص فيكتور هوغو، التي أيضاً، لم تخلُ من البؤس الذي كيفما تلفتنا نراه.