كل التغيرات العظيمة في التاريخ قامت على أكتاف ودماء المستضعفين في الأرض (المنتجين)، ابتداء من ثورات العبيد قبل الميلاد، ثم حراك العبيد وشبه العبيد إبان حكم القياصرة، التي توالت حتى القرن الثامن عشر وانبثاق الثورة الفرنسية، والتي شمل فيها الحراك الجماهيري الفلاحين (الأحرار شكلا) والعمال وصغار الكسبة، وانضم إليهم بعد مأسسة الدولة، صغار الموظفين والعسكر والفنانون والمبدعون ورجال الدين.
رجال الدين الفقراء ساهموا بفاعلية طوال التاريخ لصالح التغيير الإيجابي والتطوير. لابد من الإشارة هنا، إلى أن الكنيسة و(المدرسة في الجوامع الإسلامية) كانت بمثابة الجامعات الحالية، حيث احتوت على تنوع فكري ناشط واستنهاض البحث العلمي لصالح التطوير الاقتصادي -الاجتماعي ووضع أسس الإصلاح ومكافحة الظلم والفساد وتقويم الأنظمة والمؤسسات.
الفئات الفقيرة، تاريخيا تسمى (الجماهير الشعبية)، يتبعها في السلم الاجتماعي فئة (الانتلجنسيا)، أي المتعلمين، الذين ينحدرون من جميع الفئات الاجتماعية، سواء كانت فقيرة أو غنية، ولذلك هم وسطيون في التراتبية الاجتماعية.
الموقع الوسطي لهذه الفئة، لا يعني إطلاقا أن تموضعهم في الصراع العام وسطيا أيضا، لأن مجريات الصراع تتطلب أن تكون مع الظالم أو المظلوم، وعدم اتخاذ موقف من الظلم، هو موقف بحد ذاته، يخدم الظالمين في نهاية المطاف.
تقوم الفئة الوسطى بدور غاية في الأهمية في الصراع الاجتماعي، فعناصر هذه الفئة إما أن يكونوا خدما للمالكين والمتنفذين وبالتالي أداة للقمع أو يناصرون المظلومين ويصبحون بذلك قادة للحراك الجماهيري .
عناصر الانتلجنسيا الذين يناصرون المظلومين، غالبا ما يكونوا منحدرين من الفئات الفقيرة، ولكن يوجد بينهم من هو منحدر من الفئات الغنية والمتنفذة، وهؤلاء يوصفون بأنهم (منسلخين) فئويا، وبالنسبة لعناصر الانتلجنسيا المنحدرين من الفئات الفقيرة، والذين يتخذون موقفا لصالح المتنفذين في الصراع، هم كذلك منسلخين عن فئاتهم الاجتماعية أيضا.
الحراك الجماهيري في كل بقاع الأرض لم يحقق إنجازاته دفعة واحدة، بل بتراكم طويل الأمد، عبر الاحتجاج والصدامات والانقلابات والانتفاضات ...إلخ، حسب حجم ذلك التحرك والتغير الذي أحدثه .
توصيف الحراك الجماهيري على أنه ربيع أو شتاء أو صيف أو خريف، هو اختزال مقصود لمداه ومحاولة للجم قوته وسرعته وإجهاضه في نهاية المطاف.
دأبت الأقلام المأجورة والفضائيات العالمية الصفراء لتكريس مصطلح (الربيع العربي) من أجل وضع حد للحراك عند نقطة إسقاط هذا الخائن أو ذاك والاكتفاء بهذا القدر. كما حاولت استغلال فرصة اعتبرتها ذهبية، وهي ضعف اليسار بسبب القتل والتنكيل به خلال (الزمن العربي الرديء) وافتقار هذا الحراك لقيادات تضمن صحة توجهه، فالفرصة سانحة لإجهاضه، ولكنهم اصطدموا بحقيقة تاريخية لم تخطر على بال، وهي أن التعامل مع حراك جماهيري ليس له قيادات هو ضرب من المستحيل، وخاصة عندما يكون بالملايين .
حاولوا استخدام الخطط البديلة وتغيير الرموز وإبقاء المضمون كما هو الحال باستخدام الفلول، ولكنهم فشلوا ولم تفلح العبقرية الأميركية بالتحكم بزخم الجماهير، واكتشفت أن القيادة ضرورية، فلجأوا لتجزئة الحراك وتسليط الطابور المرتبط بمخابراتهم، ليقوم بإجهاضه والقضاء حتى على الإنجازات الطفيفة التي تحققت سابقا، كبناء شبه دويلات وعمليات تنمية ركيكة غير مجدية، فاتجهت أخيرا للقضاء بالقوة على مسببات هذا الحراك العارم، وخاصة المقاومة، فأخفقت في ذلك أيضا.
كان احتلال العراق، هو الخطوة الأولى لإطباق الخناق على النهوض الجماهيري العربي، وخاصة في سوريا، ولكن الانسحاب المذل للقوات الأميركية، بحجة انتهاء المهمات العسكرية، ترك فراغا لا تستطيع إسرائيل ولا العثمانيين الحالمين ملأه، لذلك تلجأ الولايات المتحدة لحرق الأخضر واليابس وتدمير الحجر والبشر في عملية انتقامية بشعة، حتى لو منعها ذلك من استعادة هيمنتها من خلال إعادة الإعمار أو المساعدات الاقتصادية المسمومة. لقد ورطت دول المنطقة وإسرائيل في هذه العملية التدميرية لتضمن استجداءها للحماية خلال التسويات القادمة وفرض شروطها في النهاية.
هل تنجح العقلية المافيوية الأميركية في إعادة إنتاج مجموعة، تسمي نفسها شعبا، تربت على الحقد والكراهية والعنصرية والعيش على دماء واستعباد الشعب الفلسطيني، والموعودة بأراضي المنطقة كلها من نيلها إلى فراتها، للقبول بالأمر الواقع والإقرار بالحقوق؟ وهل تمتلك الولايات المتحدة القدرة على استبدال المافيات الحاكمة فيها بأخرى عقلانية قادرة على لجم الجنون الإسرائيلي وتصفية الأحلام العثمانية وحل حلف الأطلسي والأحلاف الأخرى وبناء علاقات دولية جديدة على أساس استقلالية بلدان العالم وحق الشعوب قي تقرير مصيرها؟
إنني غير قادر على تصور معجزات من هذا النوع، لأن الكوادر المكونة للحكومة الأميركية الحالية، ليسوا قادرين على التحول من عقلية المؤامرة إلى ممارسة الحكمة والخروج من المأزق بواسطة الإقرار بالخسارة من جهة والكف عن إسالة دماء مجانية دون هدف سوى القتل المافيوي القذر من جهة ثانية.