اتخذ النص الأدبي مكانته في القديم والحديث لقدرته على التعبير عن المكنون الإنساني، وتمثيله العالم الداخلي للشخصية الإنسانية. ونتيجة لتطوّر الحياة المعاصرة وتعقّدها فقد تجددت وسائل التعبير الإنساني المعاصرة، واتسع بناء على ذلك مفهوم النص المعاصر لتدخل فيه كل الأشكال التعبيرية التي ينتجها الفكر الإنساني كالأغنية والكليب والصورة والفيلم والإعلان واللوحة والتمثال والبرنامج التلفزيوني.. الخ بالإضافة إلى القصيدة والرواية والقصة..الخ.
إن هذا الأمر يكشف عن انهيار المفهوم التقليدي (للنص) الذي كان يقتصر على النص الأدبي ليشمل الآن كل أشكال التعبير الإنساني. وهذا المفهوم الجديد للنص امتثلت له دراسات النص المعاصرة، فلم تعد البلاغة المعاصرة مثلاً تتعامل مع النص اللغوي فقط، وإنما أخذت تدرس كل الأشكال التعبيرية السابقة ومثيلاتها، وكذلك كان فعل النقد الثقافي الذي رأى عجز أدوات النقد الأدبي عن الحفر في عمق التعبير الإنساني للكشف عن الإيديولوجيات الكامنة داخله، ومن ثم ابتدع أدواته الخاصة للقيام بهذه المهمة متجاوزاً درس الأدبي فحسب، محاولاً أن يعمّ كل أشكال التعبير الإنساني الممكنة.
هذه الحقيقة المهمة في طبيعة النقد الثقافي تغافل عنها كثير من الدارسين العرب، فظنّوا أن النقد الثقافي هو شكل من الأشكال الجديدة لدراسة العمل الأدبي، متناسين بأنه إذا كان النقد الأدبي هو نقداً للأدب وجمالياته، فإن النقد الثقافي هو نقدٌ للثقافة وتجلياتها. إنه لمن الواضح بأن النقد الثقافي لا يخص العمل الأدبي فحسب. وهو أمر أشار إليه كثير من الباحثين ليس آخرهم د.عبدالله الغذامي نفسه في مواضع مختلفة من كتابه (النقد الثقافي)، فهو مثلا يعلن استغرابه من الانشغال بالأدبي وإهمال الثقافي الجماهيري الذي يؤثر كما يقول أكثر من نص لأدونيس، مستغرباً إغفال الخطابات الفاعلة لمجرد ابتعادها عن اعتماد المؤسسة الأدبية الرسمية وشروطها الجمالية (انظر ص 14 و15)، ويعيد ذلك المعنى في تعريفه بالنقد الثقافي، حيث يؤكد على أن هذا النقد ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو خارج حساب المؤسسة الأدبية وإلى ما هو غير جمالي (ص 32)، ولهذا يرى د.الغذامي بأن غير المؤسساتي وغير المعتبر جماليا هو الأكثر تأثيراً في الناس كالنكتة والأغنية والإشاعة، وأن لها قدرة تأثيرية هائلة تفوق الخطاب الرسمي الأدبي، وهو أمر -كما يقول- قد غفل عنه النقد رغم أهميته (ص62).
إن هذه الرؤية هي أحد أهم الأسس التي تقوم عليها فكرة النقد الثقافي، وهي الاشتغال على النص الشعبي ذي القدرة التأثيرية الهائلة، لفضح ضلوعه في تمثيل ثقافة السلطة (الاجتماعية أو الدينية أو الإعلامية أو السياسية...الخ). والغريب أن د.الغذامي الذي قرر هذه الحقيقة لم يقف عند النص الجماهيري كما اقترح، وإنما اشتغل على النص المؤسساتي الرسمي (النص الأدبي). لقد كان د.الغذامي يدعو في كتابه (النقد الثقافي) إلى فكرتين، الأولى هي الوقوف عند القبحيات الثقافية وليس الجماليات الفنية في العمل الأدبي، والثانية تطبيق النقد الثقافي على الشعبي وغير الأدبي والجمالي، وقد استطاع في كتابه أن يقدم شرحاً شافياً وافياً للفكرة الأولى، ولكنه لم يقدم شيئاً فيما يتعلق بالفكرة الثانية التي ربما ضاقت عنها مساحة الكتاب المتاحة.
لكنه عاد للفكرة الثانية محاولاً قراءة الشعبي في ضوء النقد الثقافي في كتابه الآخر (الثقافة التلفزيونية)، حيث يتكلم في هذا الكتاب عن اتصال النقد الثقافي بالثقافة البصرية (انظر: الثقافة التلفزيونية ص 13)، ويشير إلى أن الثقافة البصرية هي فرع من فروع النقد الثقافي (ص13)، ويذكر دراسة الثقافة البصرية ضمن النقد الثقافي في الجامعات الأمريكية (ص26)، وكان قد تحدث قبل ذلك عن بدايات الاهتمام بهذا الجانب في الدراسات العربية، مشيرا إلى أن كتابه (الثقافة التلفزيونية) هو أحد الكتب في هذا المجال (ص 15). لكن هذه الرؤية النظرية لم يستطع د.الغذامي تطبيقها بشكل مقنع، لأنه لم يكن في كثير من الأحيان يحاول تمثيل المعاني التي تعطيها الثقافة والتراث للصور والأشكال المختلفة، وإنما كان يحاول الكشف عن النسق الإنساني وليس التسلّط الثقافي، وهناك فرق شاسع بين الإنساني المشترك والثقافي النسبي. كما أنه يخلط في بعض الأحيان بين النقد الثقافي والسيمائية، كما في حديثه مثلا عن اللباس، فحديثه عن دلالات اللباس يقترب من السيمائية أكثر من ارتباطه بالنقد الثقافي والثقافة البصرية، وقد يُعتذر للدكتور الغذامي بأن الكتاب ربما كان في أصله مجموعة من المقالات المختلفة التي جمعها المؤلف فيما بعد تحت عنوان أحد مقالاته.
إن هذا التركيز من قبل بعض باحثي النقد الثقافي على العمل الأدبي يدلّ على أنهم لم يتمعنوا في مفهوم النقد الثقافي الحقيقي. وإذا كان هؤلاء الدارسون قد أخطأوا في معرفة ميدان النقد الثقافي الحقيقي، فقد أخطأوا كذلك في تحديد الدور الذي يقوم به النقد الثقافي، فالدكتور الغذامي ركز في كتابه على الكشف عن الأنساق الثقافية في العقل العربي، عبر رصد الأنساق القارة في العقل الجمعي، ولا تثريب عليه في ذلك لأن هذا هو العنوان الفرعي لكتابه، فهو (قراءة في الأنساق الثقافية العربية). لكن الخطأ يأتي عندما يظنّ بعض قراء د.الغذامي أن هذا هو دور النقد الثقافي فقط، وليس الأمر كذلك. إن دور النقد الثقافي يتمثّل في فضح إيديولوجيا الهيمنة والسيطرة التي تتغلغل في التعبير الإنساني، سواء أكانت هذه الأيديولوجيا نسقاً عاماً، أو مضمراً إيديولوجيا يمثل ثقافة المؤسسات المهيمنة كالمؤسسات الإعلامية أو الدينية أو السياسية أو الحزبية...الخ، فيمكن مثلا دراسة إعلان لمؤسسة تجارية أو إعلامية لتعرية ثقافة المؤسسة المهيمنة في هذا الإعلان، ويعدّ هذا شكلاً مهماً من أشكال النقد الثقافي. وهو ما أكده د.الغذامي (نظرياً) عبر تأكيده مثلاً على أن الصور التلفزيونية لا تقدم الحياة كما هي، وإنما تقدم ثقافة الهيمنة أو ثقافة المؤسسة (الثقافة التلفزيونية: ص 42) وهو ما لم يفهمه كثير من كاتبي النقد الثقافي العرب، فظنّوا أن النقد الثقافي يقتصر على الكشف عن الأنساق الثقافية في العقل الجمعي فقط. بينما ميدان النقد الثقافي أوسع من ذلك فهو يحاول الكشف عن مفهومين مهمين مختلفين، هما الأيديولوجيا (ideology) -وهو الذي سمّاه د.الغذامي النسق- والسلطة (power)، ويسعى النقد الثقافي لتعرية وجودهما في التعبير الإنساني.
الأمر الأخير الذي أساء فهمه بعض كاتبي النقد الثقافي هو اعتقادهم بأن الأدوات التي طرحها د.الغذامي في كتابه (النقد الثقافي) هي الأدوات العلمية المعروفة لممارسة النقد الثقافي. لكن الواقع هو أن د.الغذامي أخذ جوهر فكرة النقد الثقافي من كتب الدراسات الثقافية، وابتدع أدواته التطبيقية (الخاصة) في كتابه (النقد الثقافي)، وهو ما نص عليه بصراحة واضحة عندما أعلن بأنه يطرح نظريته الخاصة. (النقد الثقافي ص 53)، وعلى هذا فمصطلحات من مثل (الشعرنة – النسق - الجملة الثقافية – التورية الثقافية) هي أدوات اخترعها د.الغذامي، لكنها ليست الأدوات المعتمدة المعتبرة في دراسات النقد الثقافي. وهو ما يدفع إلى القول بأننا في حاجة إلى دراسات عربية أخرى تضيف إلى ما كتبه د.الغذامي في التعريف بالنقد الثقافي والكشف عن مفاهيمه وأدواته (الرسمية) المعتمدة، وذلك من خلال عرض رؤى أساتذة النقد الثقافي المهمّين الذين غابت أسماء بعضهم عن كتاب د.الغذامي، (ربما لاشتغالهم بالنقد الثقافي في مجال الثقافة الجماهيرية وليس في مجال الأدب) من أمثال البريطاني (ستيوارت هول) والأمريكية (بيل هوك)، وغيرهما. ولعلّ من أهمّ مفاهيم النقد الثقافي الشائعة التي طرحها هؤلاء وتحتاج إلى من يقوم بشرحها وتطبيقها على الثقافة العربية هي المفاهيم التالية: التمثيل Representation، والربط Articulation، وإنتاج المعنى Signification ، والأيديولوجيا Ideology ، والسلطة Power ، والتشفير Coding ، وفك الشفرة Encoding وغيرها. فهذه هي أهم المفاهيم التي تُطرَح في مجال النقد الثقافي، والتي آمل أن يتاح لي أو لغيري من الباحثين الحديث عنها بشيء من التفصيل في الأيام القادمة.