بعد أن عدت من نواكشوط في فبراير الماضي، سألني كثيرون: ما أكثر ما استوقفك هناك؟ فكان جوابي إنه الشعر بلسان عربي مبين، مصداقاً لوصفها قبل أكثر من أربعين عاماً بأنها بلد المليون شاعر!!
قبل مئة عام أصدر نزيل القاهرة المؤرخ أحمد بن الأمين الشنقيطي (المتوفى عام 1913م) كتابه الشهير «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط» المرجع الشامل عن موريتانيا؛ تاريخها وجغرافيتها وسكانها وشعرائها، ثم جاء ضيفنا قبل ثلاثين عاماً، العلّامة الدكتور محمد المختار ولد ابّاه وألّف كتاباً طبع مراراً بعنوان: الشعر والشعراء في موريتانيا، أكمل به ما بدأه سلفه، واستهلّه كسابقه بمقدمة عن بلاد شنقيط، وعن دخول الإسلام والعرب فيها.
ولعل البعض منكم يتساءل في نفسه: ما علاقة موريتانيا بشنقيط وما مدلول الاسمين، والواقع أن هذه هي تلك، وموريتانيا ومعناها بلاد الرجال السمر، اسم أطلقه الرومان، ثم تبنّـاه الفرنسيون عند احتلالهم لها في الثلث الأول من القرن الماضي، وشنقيط وتعني عيون الخيل بالأمازيغية (البربرية) بلدة تاريخية قديمة في وسط موريتانيا بتراثها المعماري الفريد وبمبانيها الأثرية التي تشبه بيوت الحجر والطين عندنا، هي الأصل والاسم التاريخي لمنطقة ممتدة بين مالي والسنغال والجزائر والمغرب، أسلمت وتعرّبت مع وصول الفاتح العربي عقبة بن نافع إلى شاطئ المحيط الأطلسي عام 50 هـ (670م).
وفي مشرقنا العربي وعلى مرّ التاريخ، جاء علماء شناقطة يتقاربون في أسمائهم، رضعوا بدايات العلوم العربية والشرعية في بلادهم، وغرفوا الثقافات المتنوعة من مصر وهم في طريقهم إلينا، واستكملوا معارفهم الإسلامية في الحديث والفقه وعلوم القرآن الكريم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم أسسوا لدينا مدارس فكرية، كانت لها تأثيراتها العميقة في الأدب والعلوم، وأرست توأمة ثقافية متلاحمة بين ضفتي العالم العربي مشرقه ومغربه.
كان من هؤلاء الشيخ محمد الأمين الحسني الشنقيطي الذي أقام قبل مئة عام في مكة المكرمة والمدينة المنورة وعنيزة وكان من طلبته الشيخ عبدالرحمن السعدي ثم ارتحل إلى الزبير وأسس مدرسة النجاة المعروفة وتوفي عام 1932م، ومنهم الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي صاحب كتاب «أضواء البيان» المولود في موريتانيا عام 1925م الذي درّس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة ومن طلبته الشيخ محمد بن عثيمين، وكان عضواً في المجلس التأسيسي للرابطة وعضواً في هيئة كبار العلماء، وتوفي عام 1974م.
ضيفنا في هذا المجلس، هو العلامة الدكتور محمد المختار ولد ابّاه، شخصية موريتانية علمية، ولد سنة 1924م، حفظ القرآن الكريم ودرس المتون في المدارس الشنقيطية العتيقة المعروفة بالمحاضر/ المحاظر الشبيهة بالكتاتيب، انخرط سنة 1948م في سلك التعليم وبدأ يمارس نشاطه السياسي في إطار حزب النهضة المناهض للاستعمار الفرنسي، شغل عام 1957م منصب وزير الصحة ثم التعليم، وأسس أول كلية للتربية في موريتانيا، وترأس لجنة الإصلاح الشامل للتعليم، انتخب نائباً أول للبرلمان ورئيساً للجنة الشؤون الخارجية، واختير سنة 1984م أميناً عاماً مساعداً لمنظمة التعاون الإسلامي في جدة، ثم عين رئيساً لجامعة النيجر، وعمل أستاذاً في دار الحديث الحسنية في الرباط، ثم عين رئيساً للمؤسسة الوطنية لجائزة شنقيط في موريتانيا، ثم أنشأ جامعة شنقيط العصرية في نواكشوط سنة 2006م، وهي متخصصة في الدراسات العليا للعلوم الإسلامية والاجتماعية، وهو أول موريتاني يحصل على دكتوراه الدولة من السوربون سنة 1975م، وشاعر اشتهر بإخوانيات منشورة، حصل على أوسمة استحقاق وشرف من دول عدّة، وهو عضو في عدد من المجامع العلمية العربية.
يتحدث الفرنسية والعبرية والسريانية، أصدر ما يقرب من عشرين كتاباً في مختلف مجالات الثقافة العربية الإسلامية، منها ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية، وفي موكب السيرة النبوية، وتاريخ القراءات في المشرق والمغرب، وتاريخ النحو العربي، والشعر والشعراء في موريتانيا، ومدخل إلى أصول الفقه المالكي، وتاريخ التشريع الإسلامي في موريتانيا، ومدخل إلى الأدب الموريتاني، ونماذج من قراءات أهل المدينة المنورة.
والدكتور محمد المختار ينحدر من أسرة علم وأدب من ولاية الترارزة، اشتهر أهلها بالشعر والنحو والصرف والبلاغة وعلوم القرآن الكريم والفقه على المذاهب الأربعة، ومنها جاء مؤسس الجمهورية الإسلامية الموريتانية المختار ولد داده (المتوفى سنة 2003م) وعدد كبير من العلماء والفقهاء والشعراء والشاعرات، ومنهن مباركة بنت البراء المعروفة خليجيّاً.
د. ولد أباه الوزير والسياسي والبرلماني والتربوي والعلامة يحدثُـنا عن إسهامات العلماء الشناقطة في الحركة العلمية في المشرق العربي في القرون المتأخرة.
** ** **
في تقديمه لمحاضرة معالي د. محمد المختار ولد أباه في مجلس حمد الجاسر، السبت 8 مارس 2014م.