كتب الأستاذ محمد بن عبدالله الحمدان, في المجلة الثقافية الملحق الأسبوعي لجريدة الجزيرة في عدده 420 المنشور يوم السبت 2-3- 1435 الموافق 7-12-2013, مقالة تحت عنوان (حول محسن الهزان وحوار خالد الهزاني.. المقصود محسن آخر!) علق فيها على ما ذكره الدكتور خالد الهزاني في حديثه للمجلة الثقافية في العدد 417, عن ملحمة أو رواية رشيد نخلة الزجلية المسماة (محسن الهزان) مستشهدا بها على انتشار شعر محسن الهزاني في خارج محيط الجزيرة العربية.
وذكر الحمدان في عنوان مقالته أن (المقصود محسن آخر) بدليل أن (في الرواية مقدمة لا تدل على أن المقصود هو محسننا، بل محسن آخر (الهزان) بدون ياء, وهو قول رشيد بك نخلة: قصة محسن وكلفه (بالجفيلية) البارعة الجمال، الطائرة الشهرة في البادية، ومشية محسن إليها، وانفراده في أرضها وحيداً من الأعوان، إلا من خادم شجاع أمين، ثم اتصاله بها على يد معوانة عجوز ذات دهاء، ثم إصابتها بالجدري، وذهاب بصرها به، وزوال حسنها، ثم وفاء محسن بعد ذلك، وفاء فوق تصور المتصور، بأن يغير بجواده في الليل على خيمتها المنفردة، فيردفها ويرجع بها (ينهب) الأرض إلى قومه، ثم لحاق الخيل من (الجفيل) (قوم هند الجفيلية) به في الطريق، واشتباك الرماح، وقرع السيوف، ثم انجلاء وجه الخير آخر الأمر، بأن يكتب الكتب في الجهتين واحد لمحسن على هند، وواحد لدعّاس على دعد. فهذه القصة خبر قصير، رواه بدوي من (النمير) اسمه (سليمان الأحمد) في مجلس ابن عم والدي (عباس بك) وكان عباس بك تختلف إليه في المواسم طائفة من البدو.. فاستظرف الخبر كثيرًا، ورواه مرات في مجالسه، وتناقله عنه الكثيرون..) انتهى كلام أبي قيس ومنقوله.
ثم اقترح في آخر المقالة (أن يعمد أحد المحققين لدراسة رواية رشيد نخلة (محسن الهزان)، وهل لها علاقة بالشاعر محسن الهزاني؟ وهل هي مقتبسة من قصته؟», وبحثا عن الحقيقة وتوثيق هذه القضية الأدبية التاريخية رشح لتحقيق هذه القصة وبحثها العلامة الباحث المحقق الأديب الأستاذ أبا عبدالرحمن بن عقيل, أو صاحب المقابلة الدكتور خالد الهزاني, ووضع اسمي فيما بينهما في لفتة تعبر عن روحه الجميلة المتواضعة وحسن ظنه بقلمي المتواضع.
ثم اتصل بي ولفت انتباهي إلى ما كتبه في تلك المقالة وجدد اقتراحه علي شفويا بطرح رأيي في المسألة, ثم أهداني فيما بعد مشكورا نسخة مصورة من رواية أو ملحمة رشيد نخلة (محسن الهزان) التي دار حولها النقاش, وعددا من مؤلفاته ومصورات لديوان الهزاني لعدد من المعدين.
وبعد أن تأملت الملحمة وقرأت ما كُتب حولها في العديد من المقالات المنشورة بدا لي أمران متناقضان لكنهما ليس كالنار والماء بل يمكن الجمع بينهما, (فمحسن الهزان) في ملحمة رشيد نخلة قطعا ليس هو (محسننا) كما يقول الأستاذ محمد الحمدان, لأن الشاعر محسن الهزاني ليس له محبوبة تسمى (هند الجفيل) وليس له أخت تسمى (دعد) ولم يكن بين قبيلته وقبيلة (الجفيل) صراع, بل كل شخصيات الملحمة وأحداثها متخيّلة وليس لها وجود في الواقع ما عدا شخصية (محسن).
وفي الوقت نفسه أعتقد جازما أن (محسن الهزان) في رواية رشيد نخلة هو (محسننا), لكنه (محسننا) اسما لا سيرة أي أن هذه الملحمة كُتبت بإلهام من محسننا, فهي كما قال أبوقيس في تساؤله « مقتبسة من قصته, و(الملحمة) يعتريها ما يعتري (الشعر الغنائي) من الخيال سواء في الصور أو في الأحداث والوقائع والشخصيات, فهي مزيج من الحكايات الشعبية والأساطير التي تحكي بطولات ومغامرات, ولو اكتفت النصوص بالحقائق لكانت نظما إن كانت شعرا, وتاريخا إن كانت نثرا.
و(محسننا) محسن الهزاني هو - كما قال الدكتور خالد الهزاني في المقابلة ـ شاعر طارت شهرته في الآفاق في ذلك الزمان, وهو اليوم معدود في رواد الشعر النبطي المقدّمين, ولما كانت موضوعات بعض قصائده تدور حول (الغزل) وعلى الأخص على جانب معين من الغزل يسميه الأستاذ إبراهيم الخالدي (المغامرة الحسية والتجاوز للحدود والأعراف الأخلاقية والدينية ..) ـ مع تحفظي على هذا الوصف ـ فقد اختلق الرواة وهواة الإثارة له قصصا غرامية خيالية على طريقة الـ(Action) في الأفلام, كقصة الفتاة الجميلة التي قال الرواة إن والدها الغيور خشي عليها من فتنة محسن فخبأها في مغارة أسفل بئر عميقة, وترك عندها عجوزا تمشطها, وبينما كانت تلك العجوز تزيّنها قالت متحسرة على هذا الجمال الضائع:
أصفر مع أصفر ليت محسن يشوفه
توّه على حد الغرض ما بعد لِمْس
فأطل عليها محسن على طريقة السينما الهندية من جانب المغارة قائلا:
أربع ليال ومرقدي وسط جوفه
البارحه واليوم وامسٍ وقبل امس!
على اختلاف الرواية في القصة والأبيات..
وكما اختلقوا على محسن هذه القصة فقد اختلقوا على الشاعر محمد العبدالله القاضي قصة مماثلة في الإثارة مختلفة في المحتوى, فقد قالوا إن بعضا من أصدقاء القاضي قالوا له على سبيل التحريض إن شعرك لا يتجاوز الغزل وإنك لا تستطيع أن تقول قصيدة لا تدخل فيها الغزل, وراهنوه على أن يسمعهم في الغد قصيدة في وصف القهوة لا يتطرق فيها إلى الغزل, واتفقوا على أن الخاسر من الطرفين يقيم مأدبة لأهل عنيزة كلهم, وكان قائد هذا التحدي صاحب البيت الذي جرت فيه المراهنة, ولما انفض المجلس تفكر صاحب البيت في الأمر وخشي أن يخسر الرهان فأخبر زوجته أو أخته أو بنته بما جرى وطلب إليها وكانت ذكية أن تجلس قريبا من المجلس وتستمع إلى الحوار فإن أحست بأن القاضي سيكسب الرهان فإن عليها أن تمر من أمام الباب المفتوح مبدية شيئا من زينتها لتثير الشاعر وتجعله ينحرف إلى الغزل فيخسر الرهان, فلما كان من الغد وحضر الجميع وبدأ القاضي في إلقاء القصيدة ومطلعها:
يا مل قلبٍ كل ما التم الإشفاق
من عام الأول به دواكيك وخفوق
واستمر فيها أحس الجميع أنه سيكسب الرهان, وماهي إلا لحظة حتى مرت المرأة أمامهم مبدية جزءا من ساقيها المزينتين بخلخالين , فرآها الجميع, وكان مرورها لا يتجاوز ثانيتين أو ثلاثا لكن (اللمحة ذبحة!) كما يقول المثل العامي النجدي, وحينها التفت القاضي ـ كما يقول الرواة ـ إلى صاحب البيت وقال له: هالحين يا طويل العمر يحتاج!, فقال: يحتاج ماذا؟ فقال القاضي:
يحتاج من خمر السكاره إلى فاق
خشفٍ تشف اشفاه والعنق مفهوق
ثم انطلق في الغزل غير مبالٍ بخسارته للرهان .. وهاتان القصتان كما يلاحَظ يرفضهما المتن قبل السند, فالمحتوى فيهما غير متماسك لمخالفته واقع الشاعرين الموثق, ولمخالفته العقل والمنطق, وفي قصيدة القاضي تحديدا لا يوجد انفصال معنوي بين وصف القهوة والغزل كما تستوجب الحبكة.
كما أن الرواة الموثوقين لم يشيروا إليهما لا من قريب ولا من بعيد, بل تناقلهما رواة المجالس الذين يقدمون (إمتاع السامعين) على (تحري الحقيقة), وهذا ليس بمستغرب فاختلاق القصص على المشاهير سُنّة جارية بين العامة في كل زمان ومكان.
وقصة محسن المختلقة هذه - كما هو الحال في قصة القاضي ـ مثيرة للمتعة والدهشة معا, ولذلك راجت وطافت في الآفاق حتى وصلت إلى بادية الشام, ولربما كان (سليمان الأحمد) بدوي النمير, الذي عرضها في مجلس عباس بك نخلة قد عرض غيرها من الأخبار عن الشاعر محسن الهزاني ممزوجة بقصص بطولية مختلقة أسرت لب صاحب المجلس وزواره, وقصص (البطولة والحب) تخلب لب من ليس له لب, فتمنى صاحب المجلس على أحد خاصته أن ينظمها على طريقة الزجل, ولكن الرجل كما يقول رشيد بك في التقديم (استقصر باعه دون المطلب), وبعد أن أقبل رشيد بك (على الشباب والأدب كان عباس بك قد لقي وجه ربه ولم يبق من جماعته يومئذ إلا شيوخ بررة) نقل إليه أحدهم قصة (محسن) ورغبة عباس بك في صياغتها على القافية اللبنانية (الزجل), فنظمها رشيد بك وكان وقتها يحبو إلى الرابعة والعشرين كما يقول, وهذا يعني أنه نظمها في العام 1897. نظمها أولا على طريقة (المعنّى) في الزجل اللبناني ثم ارتأى بعد زمن تنظمها على طريقة (الشروقي) وهو زجل موافق في شكله وموسيقاه للشعر النبطي المعروف في الجزيرة العربية.
(محسن الهزاني شاعر غزلي مغامر) هذه هي الحقيقة التي بنى عليها رشيد نخلة ملحمته فتخيل تلك القصة الدرامية المثيرة, وتخيل لبطله (محسن) محبوبة جميلة من قبيلة معادية اسمها (هند الجفيل), وحبك القصة في أحداث درامية مثيرة انتهت نهاية سعيدة تزوج فيها محسن من هند, وتزوج خصمه القوي (دعّاس الجفيل) وهو أخو هند من (دعد) أخت محسن, تماما كما يحدث في الروايات الشرقية التي (بختامها يتزوج الأبطال!). وأحداث هذه الملحمة تذكّر بالمسلسلة اللبنانية التي عُرضت في النصف الثاني من تسعينيات القرن الهجري الماضي (فارس ونجود) من بطولة مطربة (الفن البدوي) سميرة توفيق, ولعل حبكة تلك المسلسلة مستوحاة من هذه الملحمة!
أما حذف الياء من اللقب الذي رآه الأستاذ الحمدان من الدلائل على أن (المقصود محسن آخر) فأظن أنه غير مؤثر, لأن أهل الشام - كما أحسب - يميلون إلى التخفيف في نطق بعض الكلمات ولذلك يحذفون بعض الحروف أحيانا, أو لعل الراوي لم يضبط الاسم جيدا فسار الاسم بخطئه فيكون بذلك خطأ رواية لا حقيقة وواقعا. والاختلاف بين الاسمين منحصر في حذف ياء النسب من آخر اللقب وأظن أن هذا يحصل حتى في أحاديث أهل نجد وشمال المملكة الشفوية في بعض الأحيان.
وفي هذا السياق أورد الأديب والشاعر اللبناني الكبير أمين نخلة (ت 1976) في مقدمته لديوان أزجال والده، المسمى (معنّى رشيد نخلة) أبياتا تمثل مقطعا من المقاطع التي أضاعها رشيد بك ووجدها ابنه أمين, ومنها:
يـا مير مـن جنب الطويلع بيومين
مربع وضيح الرحب لتقول جنه
مسبح بعمدان الذهب طول رمحين
والخز والديباج من تحتهنه
... إلخ
ويقال إن هذه الأبيات تبدو معارضة لقصيدة (محسن الهزاني) التي أرسلها لع بد رنية مختبرا لشاعريته, ومطلعها:
يا شين ما عيّنت لي داعج العين
قلبي عليها بالهوى زاد طَنْيه
وردّ (عبد رنية) بقصيدة يقال إن عدد أبياتها تسعون, ومطلعها:
يا راكب من فوق سمح الذراعين
فوقه غلام لا ندبته شفنيه
وربما كان هذا جائزا مع ملاحظة أن قافية الشطر الثاني في أبيات رشيد بك مختلفة عنها في قصيدتي الهزاني وعبد رنية, وهذا طبيعي لعدم إلمام الشاعر والزجال اللبناني الكبير بطبيعة (الشعر النبطي).
ومما يؤكد أن هذا المقطع كان جزءا من ملحمة (محسن الهزان) قوله في ثناياها:
ويا محسن الهزان وتمر بالعين
اخت القمر وتقول للعقل جنّه
ولعل من المفيد إيراد هذه الكلمة الرائعة التي ذيّل بها رشيد نخلة كلمةً عنونها بـ(استدراك) سجلها في مقدمة ملحمته (محسن الهزان), حيث قال:
« بقي شيء آخر أرى التبسط فيه اليوم لزاما علي وهو ما يقوم في الأذهان من أن (الزجل) بمثابة حرب على الفصحى, فأستغفر الله ألف مرة !! ما كان الزجل في الأندلس أمس, ولا في مصر ولبنان اليوم ليزجّ بنفسه هذه الزجة, فإنما الزجل فخره كله في أن يرى وجهه في زاوية من مرآة الفصحى, ويكون عليه شيء من روعتها, وشيء من طلاوة ألفاظها, وحلاوة حواشيها, ولباقة الأخذ بين خافيها وباديها. والعربية حين يقال إن الشاعر الزجلي يخرج فكرته وهي بعد حامية طلقة كما تمخضت بها قريحته, فمحاسنها لا تعدّ, وحسناتها إلى صاحبها لا تُحصى, وإذا كانت هذه حسنة الزجل إلى الزجال فما ترى يقال في حسنات الفصحى إلى الشاعر, وعنده منها كفّتا ميزان العرب (البلاغة والفصاحة)؟
فالزجل - إذن - عيال العربية من قديم الزمن إلى اليوم فضلا عن كونها لسان الأمة, والزجل لسان طوائف منها, يوم تترك فصاحتها بعض الحين, وتقبل على عاميتها! وإني ما اخترت العامية بدلا من الفصحى كما وهمت له (نوفل ليترير) بل أراني أقبل على العامية حين أترك الفصحى, وأقبل على الفصحى حين أترك العامية, ميلا مع الخاطر العارض أو المناسبة الحاتمة».
قلت: و(نوفل ليترير) جريدة فرنسية نشرت في 22-7-1934 ـ كما يقول رشيد نخلة - مقالة بعنوان (ميسترال لبنان) بحثت فيها نهضة الزجل في لبنان وذكرت رواية (محسن الهزان) وأشادت بها وبصاحبها, وقالت فيما قالت: «لماذا اختار رشيد بك نخلة هذا السبيل بدلا من أن يكتب بالعربي؟ ثم أجابت: يقول رشيد بك: إن الشاعر العربي يتخيل فكرته بلغته الإقليمية, ثم يترجم تلك الفكرة إلى الفصحى في حين أن الشاعر الشعبي يخرج فكرته وهي بعد حامية طلقة كما تمخضت بها قريحته ..
وقال رشيد بك ذكر لي بارس (موريس بارس: كاتب وناقد وصحافي فرنسي) يوم زار لبنان هذه الملاحظة, قال «أرى عند ميسترال (ميسترال إمام الزجالين في فرنسا) من الحرارة أكثر مما عند شعرائنا الآخرين ذوي الفصاحة فهو يعبر عن خواطره بلغته التي كانت تتكلم بها أمه». ثم صحح رشيد نخلة هذه الكلمة التي نقلتها الجريدة عن بارس, فقال: أما كلمته (يعني بارس) التي قالها لي عن (ميسترال) فليست كما نقلتها له (نوفل ليترير) عن لساني بل أذكر أننا بعد أن غادرنا و(بارس) نهر (الصفاء) وأشرفنا على (الباروك), التفت (بارس) إلي وقال: أما الآن فقد جزنا حقا عتبة (ميسترال) ... ثم قال: «الآن عرفت ما كنت أجهله فأنتم جماعة الشعراء الشعبيين تعيشون في بيوت الناس, ونحن نعيش في كتبهم.. فلا بدع أن نراكم أشد حرارة منا!!».