« أجنحة الحمام» .. لن أقول إنه نص رقمي بامتياز، ذلك أنه ما زال ينقصه بعض الشيء لأن يصبح كذلك، ولكنه خطا الخطوات المهمة نحو الرقمية؛ فولادته كانت عن طريق» الكيبورد» وفي» الفضاء الرقمي» مباشرة، بمعنى أنه لم يولد ولادة شفوية، شأن النصوص العمودية، وإنما لفظته الأصابع، بالشرط الكتابي، ثم إنه لم تكن ولادته هذه عبر الصحراء - مثلاً - وإنما كانت في فضاء آخر، وكان عليه أن يلتزم بشروط فضائه كاملة، لولا أنه هو ذاته ما زال غريباً عن ذاته، ويتلمس الوعي بما يجب أن يكون به وعليه.
وعلى الرغم من ذلك فقد تحقق في «أجنحة الحمام» معنى الترابط، حين تم الجمع - خلاله - بين الكتابة والصورة؛ لتنشأ من ثم علاقة بينهما، ولينتجا دلالة شعرية، تأتي من وسيطين اثنين، التحما فصارا عملاً واحداً، وكذلك تحقق فيه معنى «التفاعل» على مستوى الإنتاج، حين كان ناشر الصورة: عبد الله الصيخان، وكاتب النص: أحمد السيد عطيف، والمعنون: جبريل الـ eight: bold;» : جبريل السبعي، وعلى مستوى التلقي، حيث لم يختبئ «أجنحة الحمام» في لحظة الولادة بين دفتي كتاب، وإنما كان من فوره مشرعا للتعليق، والرد، والمشاركة.
بهذا البعد «الشكلي» أو بآليات الإنتاج والتلقي هذه تحققت في «أجنحة الحمام» بعض الشروط الرقمية، وهنالك شروط أخرى تحققت فيه على مستوى متخيله، ففضاؤه لم يعد يقنع بالمساحة وإنما بالحجم، وكان الشاعر القديم يسير على أرض مبسوطة كالصحراء، فيرى الأفق من أمامه دائرة، وإذا ما انتقل إلى مكان آخر، فإنه ينتقل إلى مركز آخر، أي إلى دائرة أخرى، فيكون بذلك سيره عبر الدوائر، وحتى لقد تجلت هذه الدوائر عبر القصيدة العمودية في الأبيات المتتالية والمغلقة على نفسها (كما يرى عز الدين إسماعيل) من هنا كان فضاء القصيدة المنتمية إلى الطبيعة يحفل بالمساحة، وأما اليوم - في الفضاء الرقمي - فلم تعد المساحة مطلبا، وإنما الحجم، وما يتبع الحجم من اتساع، وحركة تائهة في الفراغ، ولو عدنا إلى نصنا - موضوع هذه القراءة -سنلاحظ أن الأرض لم تعد» تتسع لأجنحة الحمام» وأن السماء هي الغاية والمقصد حيث «الريح رخاء» و»الطريق سالك من أهداب المراجيح».
الحجم هو الغاية هنا، وكذلك الحركة المتأرجحة عبر الفراغ، وفي هذا النص لم تعد المسألة مسألة دوائر، ولا حركة أفقية، ولا خطا منتظما، وإنما سباحة في الفراغ، وحركة صاعدة إلى» موضع قدم في السماء» أو هابطة إلى أن تصير» موضع قدم في السماء» مرة أخرى، والملاحظ - على خلاف الحال في الفضاء المساحي - أن الحركة في» أجنحة الحمام» لا تحرز تقدما على مستوى المسافة، حيث إنها لا تريد» الرحيل» الذي فرضته الطبيعة على الشاعر، حين كان يبحث عن الماء والكلأ، وإنما أرادت الحركة في « أجنحة الحمام» أن تلعب ليس إلا، وهذه هي طبيعة الفاعلية في الفضاء الرقمي بشكل عام، فهي لا تبعد عن أن تكون «تحميلا» أو «تنزيلا» أو «تصميما» أو «لعبا» ونحو ذلك، وهذه الفاعليات ذاتها تتجلى – اليوم - في النصوص الرقمية كانعكاس عن فضائها الجديد، وأما عن الحجم إذا ما أردت أن أفسر لماذا تم الانتقال إليه في النصوص الرقمية (والانتقال إلى الحجمية أؤكد أنني أول من يشير إليه) فسأقول إن المتصفح للمواقع عبر الانترنت يبدأ - أول ما يبدأ -بالدخول عن طريق ما يسمى «بوابة الموقع» ثم عن طريق هذه البوابة ينتقل بـ»النقر» إلى الصفحات الفرعية، وهذه الصفحات تشبه الغرف الداخلية، التي تتم خلالها الفاعليات الجماعية: «الدردشة» أو «اللعب» مثلا، أو الفاعليات الفردية: كـ»التنزيل» أو «التحميل»، ولذلك فالداخل إلى هذا الفضاء ينتابه التصور الحجمي، ومن ثم ينعكس هذا التصور في نصه، ومثلما أن «الحجم» في التصور الرقمي أصيل، فكذلك ما يمكن تسميته «الانتقال» أو النقلة بين الصفحات، وإذا ما عدنا إلى نص «أجنحة الحمام» فسنجد هذا الإدراك لمفهوم الانتقال يتجلى في النص إذ يتم الانتقال من الأرض إلى السماء عبر بوابة جديدة اسمها «أهداب المراجيح»:
الأرض مكان لا يفقه الوردَ
و لا يصلح للملائكة
ولا يتسع لأجنحة الحمام
اللحظة سانحة
والريح رخاء
والطريق سالك من أهداب المراجيح
إلى موضع قدم في السماء
وأما الزمان في «أجنحة الحمام» فليس هو الزمان الذي في النص العمودي، أو حتى في التفعيلي، ذلك أنه زمن لا يقاس بالمسافة، وإنما بالفاعلية / اللعب، من هنا فالأفعال المضارعة تسبقها الـ (لا) وكأنما هي ملغاة في الفضاء الرقمي: (لا يفقه، لا يصلح، لا يتسع) والحركة في «أجنحة الحمام» ليست هي ذات الحركة التي في النصوص القديمة، إنها هنا حركة التأرجح في الفراغ، مثلما أن المتصفح للانترنت لا يسير في خط مستقيم، وإنما ينتقل من صفحة إلى أخرى، ومن موقع إلى آخر، عبر حركة تائهة، والمكان أيضا في نصنا - موضوع هذه القراءة - متحرر من أسر الزمان، ولا غرابة في ذلك مادام الزمان الرقمي للفاعلية الذهنية وليس للمسافة عبر الطبيعية.
من خلال هذا العرض يمكنني التأسيس (عبر رؤية جديدة) لفضاء رقمي يتم الانتقال فيه:
- من التصور المساحي في القصيدة العمودية إلى التصور الحجمي في النص الرقمي.
- من استيحاء الخارج: الصحراء مثلا (إبداعيا) وشكل الخيمة مثلا (نقديا) إلى استيحاء الداخل.
- من فاعلية السير المنتظم على المساحة إلى فاعلية التوهان في الحجم أو الفراغ.
- من حضور مفردات الطبيعة في النص القديم إلى حضور المفردة الرقمية في النص الجديد.
- من وحدة النوع على مستوى البنية الشكلية إلى ترابط الأنواع.
- من التجلي الطبيعي إلى التجليات الرقمية على مستوى المفاهيم.
- من التفاعل بالقراءة أو الكتابة إلى التفاعل الأيقوني (إنشاء رد مكتوب أو مصور أو مشاهد بالفيديو).
- من زمن المسافة إلى زمن الفاعلية الذهنية.
- من الحركة عبر المكان إلى الحركة الرقمية التي لا تحرز تقدما عبر المسافة.
- من المكان الواقع تحت تأثير الزمان إلى المكان الذي لا يخضع للتحولات المفروضة عليه من جهة الزمن.
- من الأشياء المتعينة كصور لغوية إلى الأشياء المتعينة كصور رقمية.
وعلى الرغم من تلك السمات الرقمية في نص «أجنحة الحمام» إلا أنه كما أشرت في البداية، ليس نصاً رقمياً خالصاً، حيث إنه ما زال يتشبث بالمفردة الطبيعية لتؤدي دوراً مركزياً فيه كألفاظ: (الأرض، السماء، الحمام، المراجيح) وإن كانت قد تجلت في النص على استحياء بعض الألفاظ التي هي أصداء للفضاء الرقمي كلفظة «شبك» في قوله: «أو شبكٌ أقامه لص» المتعالقة مع «الشبكة العنكبوتية» برابطة الجناس، وعلى أي حال فهذه شهادة على بعض التحولات نحو الرقمية في أحد النصوص المكتوبة - مباشرة - على الفيس بوك.