لو رجعنا إلى سياق الخصومة بين الأنبياء عليهم السلام ومجتمعاتهم في القرآن الكريم، لألفينا القرآن الكريم يسوق تهمة الجنون من خلال مستويين:
الأول: مستوى التهمة مجرّدة.
الثاني: مستوى التهمة مقترنة بإحدى الصفات: (شاعر – ساحر- كاهن- مُعلَّم)، بالإضافة إلى اتهامات أخر جاءت غير مقترنة بالجنون، لكنها صفات لا يمكن إغفالها لصلتها بالسياق نفسه الذي جاء فيه استخدام الجنون، وهو سياق نبز الأنبياء ووصف النبوة من قبل الأمم المكذبة، وهذه الأوصاف: (كاذب- كذّاب- أشر- يُعلمه بشر- اكتتب أساطير الأولين- أعانه عليه قوم آخرون).
وإذا قدّم ذلك الدليلَ بأن النبوة لم تكن شيئًا واضحًا – بادئ الأمر- عند الأمم المكذبة، ومنهم العرب، ما جعلهم يضطربون فيها، كما وصف القرآن الكريم: قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ)، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ)، (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ).
إن ورود الجنون ضمن هذا السياق من الأوصاف- وهي جميعًا صفات لأناس ذوي قدرات غير عادية في نظر تلك المجتمعات التي تلقت الوحي ابتداء- يؤكد ما ذكرناه آنفًا؛ لأنه يدلُ على أننا بإزاء جنون أزعج تلك المجتمعات واستنفر قواها لمناهضته، وليس هو بالجنون السلبي: الصامت، المنعزل: الغارق في أفكاره.
هذه الأوصاف المتباينة: أوصاف تتنافى- ولا شك - مع دلالة الجنون السلبية، التي تكاد تستغرق تصورنا السائد اليوم، لكنه ليس كذلك بالنسبة لتصور العرب الجاهليين؛ وهو تصور غير بريء من نسبة شيء من القدرة الخارقة والدهاء إلى المجنون. فالجنون - بحسب ما يحكي القرآن عنه- حالة اختلاف ثقافي مشتمل على مصادر معرفيّة خاصة تصنعه في حالة من القدرة، والقوة المتمردة، المخالفة للناس، المتعالية على الفهم، القاهرة المؤثرة؛ سواء استمدها من ذاته، أو من قوم يعينونه، أو من معلِّمٍ، أو من أثارةٍ من علم، أو من رئيه من الجنّ الذي يوسوس له، فهو:
- ذو قول مسكون بالغواية وتداخل الحقيقي بالمتخيل، مسكونٍ بالجمال حدّ استلاب عقول السامعين العقلاء. (= شاعر).
- ذو قوة وسلطة خفية تغيّر؛ تجمع وتفرق، وتؤثر في الأشياء، وتقلب الحقائق رأسًا على عقب، وتصنع عالمًا عجيبًا، دون منطق معروف. (= ساحر).
- ذو علم خارق بالمغيبات والخوافي والبواطن؛ لوجود من يمدّه من القوى الخفية، وهو ذو سلطة على ضمائر البشر، وفضح أسرارهم.(= كاهن).
- ذو قدرة زائدة على تغيير الوقائع واختراع العلاقات. (= كذّاب).
- ذو مدد خارجي أو داخلي، يستمدّ قصصه وأخباره من: رئيٍ يعرض له، أو يستمدها من أساطير الأولين التي تملى عليه بكرة وعشيًّا، أو من بشرٍ يعينونه على ما يقول، أو أنَّ هناك من يُعلِّمه. (= معلم مجنون- يعلمه بشر- وأعانه عليه قومٌ آخرون- أساطير الأولين اكتتبها).
- ذو قوة وقدرة يسخرها في صرف الناس عمّا يعتقدون، وتغيير ما يحترمونه من القيم. (= أَشِر).
فالجنون الذي يرمى به الرسل إذن- ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام- جنون ذو قدرة على الفعل! له حضوره المؤثر، وخطابه المضاد المخالف لماهم عليه؛ مما سوّغ لهم وصفه بالأشر، وليس-كما قد نتوهمه- تهمة مجردة من دلالات الغرابة المنطوية في ذاتها على قوة وقدرة، وقهر وسلطان؛ ولو نافت في نوعها نوع النبوة. ولذلك ينبغي أن تعزل تلك القدرات الغريبة وتمنع من تغيير الواقع، عن طريق حصرها في/ ربطها بـ (الجنون)، أو نبذها إليه لأنها برغم ما تنطوي عليه من قدرة وإبهار خارج إيقاع النظام المستقر. وقد جاء الوصف بالأشر في حق نبي الله نوح، وهو ممن وصف بالجنون وازدجر، أي: منع وحجز؛ قال الله تعالى: (أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ*سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ). وقد جاء في بعض الآثار ما يؤكد اقتران الجنون بصفة الشر، ومنه ما رُوي عن أُم سلمة -رضي الله عنها- أَنها قالت: حدثتني أُم ابن صائد: أَنها ولدته ممسوخًا مجنونًا مشرورًا..». وإنما يوصف الشيء بالشر حينما يكون مضادًّا لما يعتقده الإنسان من قيم خيرة؛ والشر بمعناه الأخلاقي: «يقال لما يكون موضع استهجان، أو ما يكون موضع رفض من الإرادة».
وبسببٍ من ذلك وجدنا القرآن الكريم يعرض لمسألة تقرير القدرات العقلية للنبي محمدٍ عليه الصلاة والسلام من خلال تقرير أمرين أذهان المتلقين، يضادان ما يشيع من وصف المكذّبين له بالجنون، وهما:
- الإشادة بخلقه العظيم، قال تعالى: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، لأنَّ:«الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، ومن كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه». وقد تقدّم أنَّ ابن جزي جعل من لوازم خطاب الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ?وإنك لعلى خلق عظيم? الشهادة له بـ:«وفورة العقل وصحة الفهم».
- تزكية ما تكتنزه دعوته (النبوة) من فضيلة وصدق، من خلال ربطها بسياق آخر غير ما يُجِلُّ المكذبون وغير ما يعتقدون (= غير سياق النظام الذي يحكمهم)؛ فوصفها بأنها:
- من حيث هي في ذاتها: دعوة جاءت بالحق: قال تعالى: (بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ).
- وأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعًا من الرسل (شاذًّا فيما يدعو إليه)، بل جاء مصدِّقًا لما بين يديه من النبوات والأنبياء قال تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ).
ومن ثمّ فهو في نفسه - عليه الصلاة والسلام- وفي سلوكه، وفي علاقته بمجتمعه: عاقل تام العقل؛ لأنه: على خلق عظيم، ولأنه في دعوته وخطابه ليس مبتدعًا حياة جديدة ولا قيمًا مستحدثةً، بل هو نبيٌّ بين أنبياء، يحمل الحقّ والهدى، ويروم - بإذن ربه- إرجاع المجتمعات التي انحرفت عن الجادّة إلى استوائها السابق على الصراط المستقيم.
ولخطورة هذا الوجود المتمرد (النبوة) على الأنساق المتحكمة في إنتاج القيمة والحقيقة ومن ثم سيرورة الحياة الثقافية بشكل عامل في المجتمع آنذاك؛ فإن تشتيت الانتباه عن متابعته، وإحالة خطابه إلى اللغو والعبث، وحصره داخل (الجنون)، يمثل الحل الثقافي الأنسب لتلك المجتمعات الرافضة والخائفة- في الوقت نفسه- على أنظمتها، لأن الجنون – من جهة- يسقط عدالة هذا الوجود المتمرد عليها- ومن جهة أخرى- يكفيها مؤونة الجدل والرد. وهما غير مأمونين دائمًا ولا سيما حين يكونان في مواجهة مكشوفة للناس مع من يوصف - بحسب ما يروجون- بقدرات كبرى، فهو يجمع بين بلاغة الشعراء، وعلم المعلَّمين، ورئي الكهان، وتمويه السحرة وتأثيرهم، وما ذاك إلا لأنهم - برغم مخالفتهم للقيم حولهم- يملكون منطقًا متكاملاً جديرًا بالتأمل بل الاتباع. ولذلك نبه القرآن الكريم إلى سطوة الجماعة على الأفراد فدعا نبيه إلى أن يدعوهم إلى التفكير خارج سياق هيمنة سادتهم وكبرائهم، وخارج سلطة النظام الذي يدفعهم دفعًا إلى الإعراض عن الحقّ؛ ولو كان في متناول أيديهم، وهذا يكون بالخروج على سياق التفكير الجماعي الذي (يعقلُ المعرفة) في الأنظمة الاجتماعية إلى حالة الفردية والاستقلال؛ حيث يستطيع الفرد أن يبحث عن علاقات جديدة، ويقف على الحقيقة المغيبة بفعل سلطة التفكير السائد. قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).