قضيت في وطني العراق أحد عشر شهراً أنجزت أوراقي المفقودة طوال أكثر من أربعين عاما، وتمكنت من تصوير وإخراج فيلم روائي عن غربة المثقف «بغداد خارج بغداد» وعند إقامتي هناك باشرت كتابة عمود في صحيفة يدير تحريرها أحد أصدقائي وكنت أكتب سينمائي وكاتب مقيم في هولندا، وتحتها مقيم حاليا في العراق. وعندما أنجزت التصوير وبات على أن أسافر لإستكمال العمليات الفنية للفيلم طلب مني صاحبي أن أواصل كتابة العمود الصحفي من هولندا فغيرت مكان الإقامة وصرت أكتب دون أن أذكر مقيم حاليا في العراق، لكن صاحبي بقي مصرا أن لا يحذف هذه الجملة وأن أبقى مقيما في العراق حتى وإن كان ذلك شكلا في الصحيفة. أحيانا يكون العمود معبرا عن سفرتي وعودتي إلى هولندا، ولكن عندما ينشر المقال أجد إقامتي في العراق لا تزال على الصحيفة «مقيم حاليا في العراق».
ما يؤسف له أنني وأنا أصور فيلما عن غربة المثقف كنت أخاف من السفر لأني كنت أشعر بأن الطريق طويلة والمسافة بعيدة للوصول إلى وطني الثاني هولندا الذي أصبح الأول، وهو أمر مؤسف حقا. نسيت وجود طائرات تقطع المسافات بساعات قليلة، لكن إجراءت الحياة اليومية حتى شراء قنينة ماء صافية وغير ملوثة تحتاج إلى مشروع وتخطيط وإجراءات حيث كنت أخاف أن يكون الماء مغشوشا وهو ليس من عيون المياه الصافية، بل هو ماء مصدر من شركات أنشئت خصيصا لتصدير المياه الكاذبة للوطن العراقي. هكذا كنت أخاف من إجراءات السفر.
لم أكن أعرف عبور الشوارع حيث تعلمت العبور في هولندا عند أضوية التقاطع حتى وإن كان الوقت متأخرا ليلا وعدم وجود سيارات في الضاحية التي أقيم فيها. ويوما وحقيقة كدت أفقد حياتي عند عبوري شارع في مدينتي البصرة.
كنت أشعر أني غريب. وهذه الغربة التي تجسدها الغربة الثقافية الإنسانية والوجودية بشكل مكثف هي التي قادتني للتفكير بغربة كلكامش عند موت صديقه إنكيدو في إسطورة كلكامش واتخذت منها مدخلا لفيلمي الروائي «بغداد خارج بغداد» ولأبحث في غربة الشاعر الرصافي وغربة بدر شاكر السياب وغربة المطرب مسعود عمارتلي وغربة الجواهري وأصور الثلوج التي تغطي قبور المهاجرين نحو المنافي .. هو حديث عن غربتي التي تقمصت فيها غربة شخصية جعفر لقلق زادة المسرحي المسلي في تاريخ العراق. كنت أعيش غربة مضاعفة غربتي أنا شخصيا أثناء كتابة المشاهد وكتابة الديكوباج وهي غربة يومية ولحظوية وغربة الشخصيات التي أجسدها في الفيلم. ذلك كان يزيدني خوفا. وراء هذا الشعور بالغربة تفاصيل كثيرة يعيشها العراقيون في الخارج وبشكل أكثر كثافة غربة المثقفين. حيث التفكير بأشياء كثيرة أظن أن المثقفين العرب بدءوا يدركونها بعد الربيعات العربية الجديدة وتدهور الواقع وضياع المكان والزمان على المستويين الواقعي والوجودي.
سؤال طالما سألته نفسي وأنا أنظر إلى مكتبتي وهي ليست مكتبة كتبية بل هي أيضا مكتبة سينمائية لها تاريخ .. أين سأذهب بها وأين سيذهب بها أهلي عند لحظة الوداع الطبيعية لأي إنسان. لقد شاهدت تاريخ وطني المصور مدفونا تحت الأنقاض. ملايين الأمتار السينمائية المصورة تالفة أطاحب بسقف الأرشيف قذيفة وأطاحت بسقف المكان وبقيت طوال سنوات تحت الأمطار وتحت التراب، فأين أرسل أفلامي كي تضاف إلى التلف ومن يحملها بعدي وتحت أية ظروف مناخية يمكن حفظها. سيضيع كل شيء يا قاسم.. ثم إن أولادنا نعلمهم بصعوبة كيف ينطقون الحرف العربي فماذا سيبقرأون من كتاباتنا.
هذا ما يجعلني أروي للقارئ العزيز ولكل الأصدقاء حكاية عقيل ... المثقف الاقتصادي المدهش في مسار الحياة العراقية والمقيم في أمريكا. شاب مدهش الذكاء ومتفوق ويستفاد منه في أمريكا. أعجبت به سيدة أمريكية، وطلبت هي يده للزواج وكان لديه شرطان .. سألته ما هما. قال لها الشرط الأول أن لا ننجب أولادا. فكرت كثيرا ولشدة إعجابها بشخصه وافقت على الشرط. وسألته عن الشرط الثاني فقال لها عندما أفارق هذه الحياة أرجو أن لا أدفن في أمريكا. سألته وأين ترغب أن تدفن في العراق. قال لها أيضا لا .. فكتب لها بعد الزواج وصيته أن يحرق وأن يذر ترابه فوق مياه المحيط. مات عقيل فجأة وبدون مقدمات وأصبحت وصيته مشكلة بين أهله والحكومة الأمريكية. وزوجته أصرت أن تنفذ الوصية المكتوبة.
يعيش خارج العراق أكثر من ألف كاتب وأديب وآلاف المبدعين في شتى الاختصاصات. نهاية فيلمي بغداد خارج بغداد لقطة قبور ينزل عليها الثلج ويغطيها ولا نشاهد منها سوى بضعة أجزاء من صور أمام القبور ليست صورة عقيل بينها.