Saturday 08/02/2014 Issue 427 السبت 8 ,ربيع الثاني 1435 العدد
08/02/2014

وخلّ الباقي على الله!

تأملت في مقولات خطباء متكررة؛ يصاحبها صراخ وتباكٍ على الأوضاع، التي آلت إليها أمور الأمة أو الناس، أو تطبيقات الدين كما يتصورها أولئك الخطباء. أحد تلك الحالات كان يتأوه فيها الخطيب بحنق شديد على سوء الأحوال، ومردداً عبارات عامة من نوع: ما هذا؟ ماذا حلّ بنا؟ وبعد أن يسترسل في وصف سوء الأوضاع، وتردي الأحوال التي وصلنا إليها؛ يعقبها في الجزء الثاني من الخطبة بعبارات الدعاء، التي تدل على أنه راضٍ تماماً عن أحوالنا، من مثل: الله لا يغيّر علينا.. ولا يبدّل أحوالنا.. ولك الشكر ربي كما أنعمت علينا بكل هذه النعم!

ربما لم يتعود من سامعيه ربطاً بين جزئي الخطبة، أو أنه يقول الأولى في موضوع من موضوعات الحياة، وقد اختار أن يكون التباكي على أحوال الأمة؛ بينما في الثانية اعتاد على أدعية معهودة، منذ أن كانت أوضاع الناس بخير في رأيه أو رأي العثمانيين الذين صاغوا تلك الأدعية. وربما كانوا يريدون استتباب الأمور لمصلحة السلاطين العثمانيين وأعوانهم، وأن لا يتغير عليهم أي من العوامل التاريخية أو الاجتماعية، التي قد تميل الكفة لغيرهم. وعندما ناقشت أحدهم في تناقض المضمونين، قال: الناس تريد كلاماً روحانياً تؤمّن عليه، وهو ما يحصل في الخطبة الثانية. قلت له: ولكن الخطبة الأولى ليست روحانية، بل شتائم موجهة إلى أوضاع العصر الحديث. فهل كان يدعو في الثانية إلى تثبيت تلك الأوضاع وعدم تغيرها، والناس يؤمّنون على ذلك، أم لم يكن يعني شيئاً على الإطلاق؟

فتذكرت حينها ما كان يقوله عدد من الطلاب المهملين، عندما يفاجأون بتدني نتائجهم؛ فيعترفون بأنهم لم يوفقوا في أداء مناسب للاختبار. لكنهم يخلون ساحتهم من التهمة مرددين العبارات المعهودة، مثل: والله احنا سوينا اللي علينا والباقي على الله! طبعاً خلاصة ما يقولونه أنهم لم يصدر منهم أي تقصير، فقد أدوا المطلوب منهم كاملاً. وعندما يواجه الطالب بأنه يتهم ربه بكونه لم يقم بما هو مطلوب منه، وهو الجزء الذي تركه له (في عبارة: الباقي، أو ما ماثلها)، فإنه يتململ، ويدّعي أنه لا يقصد ذلك.. إذاً من هو المقصر؟ أهو الأستاذ؟ لأنه لم يتبق من أطراف العملية التعليمية إلا هو.

مشكلة كبرى أن نقول ما لا نعنيه.. والمشكلة الأكبر أن نترك إصلاح منطقنا، ونبقي على اللغة الفضفاضة، التي يؤولها كل كما يريد، وإذا دقق فيها أحد وجدها مليئة بالتناقضات. وبعد كل ذلك نقول: لماذا لا يلتزم الناس بالنظام؟ فهل النظام إلا عبارات مصوغة باللغة التي نبعثر دلالاتها، ونتغاضى عن تناقضاتها. لا يمكن – في الواقع – أن توجد لغة قومية مطاطة، ويبقى مع ذلك المجتمع متماسكاً، ويملك قيماً مشتركة.. لأن التأويلات تتنازع اللغة التي يعبر بها عن القيم أو حتى عن الأنظمة والحدود المشتركة بين الناس، وبين الهيئات الاعتبارية.

أحد الأمثلة التي تؤكد ما أقول هي العبارات التي نصوغ بها التعليمات؛ فقد قرأت لوحة في النادي الرياضي، الذي أمارس فيه تمارين اللياقة، وفيها العبارة العربية: «يرجى من مستخدمي الصالة ارتداء الحذاء الرياضي»، أما المقابل الانجليزي فقد استخدمت فيه العبارة المناسبة: must. وفي جدل آخر بشأن لوحة لمنع التدخين، تناقشنا بشأن عبارة: نشكر لكم عدم التدخين! فكانت بعض الآراء تقول بأنه غير ممنوع؛ لكن إذا امتنعتم عن التدخين، فنشكر لكم ذلك. فهل العلة في اللغة أم في مستخدميها، ومؤوليها؟ الخلاصة أن لا مخرج من تردي المنطق، إلا بدقة التعبير والالتزام بما يقال.. دون باقٍ!

- الرياض