« مُتَوَاطِئٌ وَالنُّوْنُ
أَسْرِقُ مِنْ فَمي
عِنَبَ الحِكَايَةِ مِنْ غِوَىً لَمْ يُسْكَبِ»
عندما تقرأ ديوان «الأمرُ ليس كما تظنُّ» الصادر عن النادي الأدبي الثقافي بجدة 1434 للشاعر المبدع محمد إبراهيم يعقوب، صاحبِ دواوين رهبة الظلّ، وتراتيل العزلة، وجمر من مرّوا، يشرقُ في سماء روحك الوطن ببرّه وبحره، يفتنك نخله وورد وفلّه، ويحضنك جود ودفء وطيبة أهله، وأنت تسعى متأملاً قارئاً لما هو كائنٌ، قارئاً لحلمك، كاتباً لما تحب أن يكون، وتلمحُ شاعراً نقيّاً بريئاً كطفل، حكيماً ككهل، مخلصاً للغته وفنه، محبّاً لوطنه العذب، عاتباً عليه، لكنه عتب المحبّ المتقرّب، والعاشق المضنى:
قَدَحَانِ في جِيْدِ الخَرِيْطَةِ
لَمْ أَبُحْ بِاسْمِيْهِمَا
إِلا لِنَخْلَةِ يَثْرِبِ.
إِنَّي بِكَ اسْتُدْرِجْتُ..
دُوْنَكَ ،لَمْ أَقِسْ سَفَرَي إِلِيْكَ،
وَكَمْ أَرَاكَ تَظُنُّ بِي!!
أَمْضِي،
وَلَيْسَ سِوَى اعْتِرَافِكَ بِي هُنَا..
بَيْنَ الصَّبِيِّ
وَبَيْنَ أَوْرَاقِ الصَّبِي.
وأنا حينما أكتب عن الديوان هنا، فلأنني محبٌّ للشاعر من قبل، ومعجبٌ بشعره، وقد تأثرتُ بالديوان الذي مذ حطّ بجناحيه على شجرة مكتبتي وهو لا يفارقني، أقرّبه وأتأمل قصائده، وأحمله معي إلى ركني الفريد، كعادتي في اصطحاب دواوين أصحاب الشعر قديمهم وحديثهم، شيبهم وشبابهم، حيث أجلس للقراءة والكتابة عند النخل القريب، والطيور الصديقة، وأقرأ منه على أصحابي وجلاسي، ففيه بساطة وعمق الشعر، ودفء الشعر، وعلى الشعر في نظري أن يكون بسيطاً وعميقاً ودافئاً، ولكنها ليست بساطة فقير شعر، بل بساطة المكتنز باللغة والمعرفة والشعر، بساطة العارف النازف المتمكن المقتدر، كما أن على الشعر أن يخرج من الأوردة والشرايين وخفقان القلب، فيَتنفّس ككائنِ ويُتَنفّس، لا أن يتساقط حروفاً مبعثرةً بلا روحٍ من اللسان والبنان.
هذه المعادلة الصعبة لا يحسن وزنها، ولا يعرف مفاتيحها ويفهم مكنونها، إلا شاعر ومحب، أو محب متعب بهموم كبرى، وسعيد في النهاية بهذا الحب، وهذا التعب. هذا الشاعر رغم الحزن الخفيض يغني ويَطربُ، ويُطرب، دون تنازلات عن القيمة والمعرفة العميقة والمواقف الثابتة، يتقن الشكل والمضمون بحرفية عالية، دونما تنازلات عن الحق والخير والحب والجمال، ولا أعتقد أنّ في هذا، كما يعتقد بعضُهم، تنازلاً عن الفنّ والإبداع.
فالشعر ببساطة وعمقِ الماء، وأعجوبة الخفاءِ والتجلّي في الهواء، يحيطُ بنا ولا نشعر بهِ إلا إذا هب النسيم، الشعر هو الماء الفرات، وهو الهواء والنسيم، وهو سحر الكائنات نراها جميلةً وبسيطةً، كما في الطير والشجر، ولكن هذا السحر في بساطته وفي شكله النهائي الجميل، هو سرّ تعقيدات وتفاعلات لا نهاية لها. الشعرُ ليس بكيمياء، ولا فيزياء أو رياضيات مقننة، الشعرُ روح وقلب ومشاعر ورؤية ورؤيا، والشعر نهل من مخزون هائل من أنهار الحضارات، ومن مناهل التاريخ والتراث، من التراكمات والإضافات، من التفاصيل الصغيرة للواقع وصدماته، هزائمه وانتصاراته وتناقضاته، من تجاربه المريرة الحزينة والمفرحة.
وتجربة شاعرنا غنية عن التعريف، فهو شاعرٌ مميز مجيد، وهو في هذا الديوان يُظهِر مهاراته، وقدراته الشعرية واللغوية، ويرفعها إلى أقصى مدى، ويضعها هناك لتسرقنا كأوائل الأشجار وأعاليها، كغمامٍ ممطرٍ بلا مَنٍّ على صحراء العطش.
والأمرُ لدى شاعرنا ليس كما تظنُّ، فقصيدته الدافئة الممطرة والتي تبدو انسيابية بسيطة، محمّلة بالأسئلة والاحتمالات والإيماءات. هذه الجارية جاريةٌ كفرات، إنْ شئت تأملتها بصمت وإن شئت قرأتها بتهدّج صوت، وإنْ شئت غنيتها، وقلّةٌ من يحسنون مثل هذا البوح، فلننصت إذاً:
أَدْنُو لِسُوْرِ الأَرْبَعِينِ
مَعَي يَدٌ
لَمْ تَرْتَهِنْ يَوْمَاً
لِسِيْرةِ مَخْلَبِ!
لِلتَّرْبَةِ السَّمْرَاءِ
أَرْفَعُ لَكْنَتِي
قُرْبَانَ أَسْئِلَةٍ، وَحُمَّى غُيَّبِ..
قَدَرٌ حَمِيْمِيٌّ
أَذَابَكَ فِي دَمَي
فَاهْنَأْ ..
وَقُلْ شَيْئَاً
لِنَخْبِ تَهَيُّـِبي
سَأُمَرِّرُ..
الوَرَقَ العَتِيْقَ، لَرُبَّمَا
...
...
هَذَا البَيَاضُ
يَقُوْلُ، مَا لَمْ أَكْتُبِ!!
ولنغنّ معاً:
جَرَحْتُ الهَوَاءَ الأخِيْرَ..
بَعَزْفي
وَأغْلَقْتُ بَابَ القَصِيْدَةِ خَلْفِي.
خَلَعْتُ عَلَى الرَّمْلِ..
إيْقَاعَ رُوْحِي
قَمِيْصُ الأنَاشِيْدِ مَا عَادَ يَكْفِي.
أنَا مَنْ أنَا
في كِتَابِ المرَايَا
وَقَامُوسُ هَذِي الهتَافَاتِ..
حَذْفي!
مَعَي
ألْفُ مَعْنَى لِوَرْدِ الأغَاني
وَلَكِنَّ لي مَا أُسمِّيهِ..
قَطْفِي.
كان هذا هو النهل، ولعشاق الشعر والإبداع نهلٌ وعَلل..
** ** **
جميع المقاطع الشعرية للشاعر محمد إبراهيم يعقوب.