كلما اندمج الإنسان في عمق الحضارة صعُب التمييز بين أصول فطرته ومرتكزات مكتسباته، وهي صعوبة غالباً ما تعيق دقة آلية الضبط فيما يميل إليه الإنسان؛ هل ميله هو جزء من أصل الفطرة أم جزء من أصل المرتكز؟
وقد يسأل أحدهم: وهل هناك ضرورة لذلك التمييز أو هل لمعرفة مصدر التمييز تأثير؟
إن التعرُّف على مصدر التحكم في أفعال الفرد يدخل ضمن مبدأ أن معرفة طبيعة الشيء تُعين على فهم وتحليل انجذاب تلك الطبيعة نحو أفعال معينة دون غيرها، أو مبادئ معينة دون غيرها، أو أفكار معينة دون غيرها، كما تُعين في الوقت نفسه على فهم نفور تلك الطبيعة من أفعال دون غيرها أو أفكار دون غيرها أو مبادئ دون غيرها.
ولكن هذا لا ينفي من تدخل مقصود «لإضافة انجذاب مصنوع»، أو إضافة «نفور مصنوع»، يخدمان فكرة «تسويق الطبيعة الحضارية».
وتحقُّق الفهم لمعرفة أسباب الانجذاب أو النفور ليس الهدف الوحيد من ضرورة معرفة نوع الأصل الذي يتحكم في حركة الطبيعة، إنما أيضاً يخدم استراتيجية الإضافة، أو صناعة الطبيعة الحضارية الموازية لأصل الطبيعة، أي فكرة «تسويق الطبيعة الحضارية»، وهي التي تشدّ الطبيعة الأولى - كما قلت مطلع هذا الموضوع - للاندماج في عمق الحضارة.
إن حيوية «تسويق الطبيعة الحضارية» والطبيعة الموازية «المكتسبة» والطبيعة الفطرية الأولى للإنسان أو المارد النائم، وشدة الاندماج بين تلك الطبائع، هي التي تُصعب غالباً التمييز بين الأصل الفطري أو المرتكز المتحكم في فعلي الانجذاب والنفور.
وشدة الاندماج هنا هي نتيجة اتفاق مصادر إنشاء الطبيعة الموازية في كلياتها مع اختلاف أحكامها الوصفية والمعيارية.
إن الصراع بين الشعوب التي تنتجها الطبيعة الموازية لكل شعب غالباً هو حاصل «الخلاف على التفاصيل» الأحكام الوصفية والمعيارية لا «الكليات»؛ لأن الكليات أيضاً غالباً ما تميل إلى الاتفاق الجمعي، وبذلك فالشيطان يختبئ في التفاصيل.
ويزداد ذلك الصراع كلما زاد تأثير «تسويق الطبيعة الحضارية» على الشعوب.
يُعلِّمنا الفكر النبوي الشريف أن كل إنسان يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وهذا الفكر يُثبت أن هناك دوماً إمكانية لصناعة «طبيعة موازية» «المكتسبة» تندمج مع الطبيعة الفطرية اندماجاً قد يغير هوية أصل الطبيعة الفطرية، لكن التغير هنا متحرك لا ثابت، وهذه الخاصية تحفظ أصول الفطرة من الحذف، ولا تحميها من الإضافة.
وتختلف وظيفة الطبيعة الموازية وفق اختلاف غايتها، لكن اختلاف غايتها - بلا شك - لا يُسقط قيمة وظيفتها.
قد يذهب البعض إلى القول إن الطبيعة الفطرية هي طبيعة ذات صفة أدبية لا إجرائية، وإن وظيفتها تقتصر على «التعريف بأصل الإنسان»؛ وبالتالي لا يُمكن إقامة اعتبار حقيقي لوجودها كمُؤثِر في تطوره وارتقائه، وبعدم الإمكان للاعتراف بحقيقة ذلك الوجود لأدبيته فإن «الطبيعة الموازية» هي «حقيقة الوجود»؛ لأنها هي التي تقود الإنسان إلى التطور والارتقاء.
وهذا القول لا يتفق مع مبدأ أن «القدرة دليل على قبول الإجرائية» فالطبيعة الفطرية - أو هكذا أعتقد - لديها القدرة على التشكل الإجرائي الذاتي، وهذا الاعتقاد لا ينفي صفتها الأدبية، والتغير بالاختلاف هو برهان على ذلك، إضافة إلى أن هناك سقفاً من الميول والرغبات يتفق عليه الإنسان بالرفض أو القبول في كل مكان.
كما أن ترويج الصفة الأدبية للطبيعة الفطرية أوجد التمييز العرقي؛ إذ نسب المثالية للعرق دون أخرى، وجوّز للرّق والعبودية.
والمسألة ها هنا ليست مسألة تفاضل بين الطبيعة الفطرية والطبيعة الموازية؛ لأنهما معا يُشكلان تكاملاً، والخلل بينهما يؤدي إلى شذوذ فكري وسلوكي.
وإن كان مفهوما كل من التكامل والخلل بين الطبيعتين هما مفهومان جدليان يتحركان ما بين مسألة هل الإنسان مخيّر أم مُسيّر؛ ما يخضع الفعل لأحكام وصفية ومعيارية، لا يغيب عنها أصل الفطرة في ذاته البحتي.
ولتقريب الصورة إلى الذهن، فإن الطبيعة الفطرية هي «مجموع القبول وقوالب الاستعداد الذي يؤسس قدرة الإنسان على الاستجابة للتغير والتطور»، وهذا التعريف لا يجعل الكيفية والكمية ضمن الطبيعة الفطرية بل هما من شأن وظيفة الطبيعة الموازية.
وبذلك فإن الطبيعة الموازية هي التي تهتم باستثمار مجموع القبول والاستعداد في تثبيت الميول وكيفية تطورها، وفي تثبيت الأخلاقيات وكيفية تطورها، وفي تثبيت الاتجاهات وكيفية تطورها، وفي تثبيت العقائد والأعراف وكيفية تطورها.
وبذلك فإن العقائد والأعراف والميول والأخلاقيات والاتجاهات هي قوالب ثابتة داخل أصل فطرية الطبيعة الإنسانية، إنها بمنزلة مارد نائم.
وأقصد بالقوالب «البحتية الخالصة».
والطبيعة الفطرية لا تقتصر على أصل قوالب الميول والقدرات إنما تتضمنها أيضاً الخواص الفسيولوجية للإنسان التي تتحول بدورها إلى قوالب ألهمت العلم الاكتشاف والابتكار.
وقيمة الطبيعة الموازية تكمن في «ذات الإمكانية التي تملكها» أو «ذات وظيفة الإمكانية»، فلولا هذه الإمكانية ما تحققت «قيمة الاختلاف الثقافي والاجتماعي والقيمي بين البشر»، الذي هو أصل الحضارة الإنسانية، وما تحققت قيمة الإيمان بذلك الاختلاف الذي هو أصل السلم الإنساني.
ولا شك أن وجود إمكانية «صناعة طبيعة موازية» مقابل الطبيعة الفطرية للإنسان تُفيده كثيراً في مجالات التعلُّم والتعليم والتغير والتغيير والتطور والتحول؛ ولولا وجود تلك الإمكانية لظلت الطبيعة الفطرية جامدة غير قابلة على الترقي.
لكن تلك الاستفادة مهما عظمت لا تستطيع أن تتجاوز أصل الطبيعة الفطرية أو تفرض شيئاً يتعارض مع الطبيعة الفطرية؛ لتظل هناك نسبة وتناسب منطقيان بين علاقة التطور بين الطبيعتين.
إضافة إلى أن وجود تلك الإمكانية في ذاتها هي مصدر التطبيقات العقلية، أو هي مصدر لفاعلية العقل، فنحن نؤمن بوجود العقل من خلالها.
لا يعني ذلك أن الطبيعة الفطرية هي الجانب اللاعقلاني للإنسان، أو كما يقول علماء الأحياء الرمز الحيواني الخفي، إنما القول الأقرب لهذه المسالة أن الطبيعة الفطرية هي «البحتية الخالصة الصافية» من أي أحكام وصفية أو معيارية، وهذا الذي يجعل تمييزها للمبني على حكم وصفي أو معياري مختلاً. والاختلال هنا ليس حاصل الانحراف المعياري إنما حاصل خلو قوالب القبول والاستعداد من أي تثبيتات.
ولكن كلما ضبطت تلك الحتمية بأحكام وصفية ومعيارية فقِهت لعبة الاختيار والتمييز.
لكن تلك الأهمية للطبيعة الموازية لا تخلو من خطر «الفساد» في حالة استغلال مارد الطبيعة الفطرية عبر قوالبها «لاستعمار الإنسان فكراً وثقافة»، و»زراعة صراع العقائد»، أو من خلال «ترسيخ التخلف والرجعية».
لا أحد يولد رجعياً أو مجرماً، إنما «فساد الطبيعة الموازية» هو الذي يصنع الرجعيين والمجرمين والإرهابيين.
لكن يظل المبدأ قائماً بأن «القيمة لا تفقد صفتها باستغلالها».
وبذلك نستنتج أن المتحكم في تربية «ميل الإنسان ومشتقاته» الطبيعة الموازية.
أما من هو المسؤول عن صناعة تلك الطبيعة؟ فيمكن القول بأن هناك ثلاثة مصادر، هي: الخبرة المتمثلة في أعراف وقوانين الانتماء الجمعي، المصدر الثاني التجربة المتمثلة في خصوصية الفرد، والمصدر الثالث تسويق الطبيعة الحضارية.