«إذا ماحصل التطابق بين المهنة والهواية فعندئذ يمكن أن يولد الفن، وهذا ماحصل لي»، هذا ما يقوله الكاتب السعودي الكبير الراحل عبدالرحمن منيف، الذي صادف يوم 24يناير الماضي ذكرى رحيله قبل عشرة أعوام. وفيما تقدم يصف منيف كما يبدو أحد أهم سبل الفرادة والإبداع وخارطة الطريق التي قادته للوصول إلى قمة سلم الإبداع الروائي.
فمنيف الذي هجر السياسة والصحافة وتفرغ للعمل الروائي لسان حاله يقول، أن تكون هوايتك هي وظيفتك ووظيفتك هي هوايتك، يعني أنك منذور للإبداع والفن وخليق بالمجد. وهو الذي لم يتحرج من طي صفحة متضخمة من حياته بعد أن تأكد له بعد مراجعة عميقة أن عليه أن يقدم على طيها ليتسنى له فتح صفحة أخرى مفعمة بالجمال والعطاء الخلاق، وكان شجاعا في قراره ووعيه بأن الصحافة استهلكته وأنه آن الأوان لينفتح على أفق جديد أكثر شفافية، مدركا قيمة خطاب الإبداع ودوره الفاعل وقدرته على توصيل الرسالة.
ومن هنا غرق منيف في نشوة الفن الروائي الذي احتواه كوطن، وقد كان يظن أن انخراطه في الكتابة الروائية مجرد نزوة أو محطة عابرة.لكن موجة الرواية استحوذت عليه واستغرقته عملية الكتابة الإبداعية، والتخطيط الجيد المسبق لها، وبروح الكاتب الروائي والتشكيلي المزدوج، كان منيف لا يحاول القبض فقط على اللحظة الإبداعية، ورسم شخوص العمل ذهنيا وإنما يعمد للتخطيط لها ويعكف على رسم الشخوص على ورق بروح فنان خبر الحياة، فنان نشأت بينه وبين الريشة علاقة مبكرة أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، أثناء دراسته في العاصمة العراقية بغداد، وكان لذلك أكبر الأثر فيما بعد على منجزه الروائي، وكذلك اهتمامه الواضح بالفن وتقديره لأهميته ودوره، واهتمامه كذلك بمتابعته والكتابة عنه، وعن بعض ممارسيه.
إذ إن ترداد منيف لكلمة» فن» في أحاديثه، يحمل أبعادا أخرى ويكشف عن علاقة متجذرة بينه وبين فن الرسم، غرسها في وجدانه مناخ بغداد الثقافي والفني حيث كانت بغداد في تلك الحقبة مركزا للتيارات الطليعية على صعيد الفن الحديث، وتأسست في تلك الفترة عام 1951 جماعة»بغداد للفن الحديث» على يد مجموعة من الفنانين الشباب الذين أصبحوا فيما بعد من أبرز الفنانين العراقيين ومنهم جواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، إضافة إلى الرسام والناقد التشكيلي الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الذي كان له دور رئيس وفاعل في الحركة الفنية وقتذلك، وقد تأثر منيف بهم فنيا، كما تعاون مع جبرا إبراهيم جبرا في تأليف رواية» عالم بلاخرائط».
وكان لجماعة» بغداد للفن الحديث»، التي كانت تحمل على عاتقها هم تأسيس تيار فني طليعي يزاوج بين البعد الفني الإنساني العالمي وطابع الأصالة المحلية أثر ملحوظ في تكوين البعد الفني في شخصية منيف ونظرته المتفحصة للحياة ودقة ملاحظته التي هي أبرز سمات الفنان، وتأملاته التي ساعدته في رسم شخوص رواياته.
ويشار في الحديث حول افتتانه واهتمامه بالفن إلى أنه كان شديد الحرص على زيارة المتاحف في باريس والمدن التي كان يزورها وتلك التي عاش فيها شطرا من حياته، وكان يقضي في تلك الزيارات للمتاحف الوقت الكثير متأملا فيما أبدعته ريشة أشهر الفانين العالميين.
ويعد الفنان مروان قصاب باشي من أكثر الفنانين الذين كتب عنهم منيف، حيث ألف عنه كتاب كامل بعنوان «مروان قصاب باشي: رحلة الحياة والفن». بعد أن نشأت بينهما علاقة وطيدة، فمنذ منتصف التسعينيات ومروان يسهم بشكل كبير في إخراج كتب منيف وباتت رسوماته تظهر على أغلفة هذه الكتب وأحياناً في صفحاتها الداخلية، وقد صدر بعد رحيل منيف عام2012 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بموافقة زوجته سعاد قوادري الرسائل التي تبادلها مع مروان بعنوان« في أدب الصداقة» وقد قام مروان بتصميم صورة غلاف الكتاب، الذي يضم رسائل تعتبر شهادات نادرة حول عملية الإنتاج الأدبي والفني والعلاقة بينهما كما تتضمن نواة كتابه عن مروان.
وتتلخص قصة هذا الكتاب كما ورد فيه« تبدأ القصة بروائي يفقد ثقته بالكلمة، فيتمنى لو أنه يرسم. بل هو يحاول في الرسم- منيف - من جهته، فنان مغترب - مروان - لم يعد يكتفي بلغة الخط واللون والكتلة، يريد» البوح» بالكلمات، يتقاطع الصديقان عند هم كبير: فنان يبحث عن طرق تعبير بالكلمات، وروائي مهووس بالفن يجرب في طاقة الكلمات على تعبير عن الخط واللون والكتلة»، ومن خلال هذه المراسلات أنقدحت لدى منيف فكرة تأليف كتابه السابق عن صديقه الرسام مروان الذي يوافق عبر الرسائل، كما يذكر الكتاب أن يبوح بما لديه عن حياته وفنه، وهكذا يدور القسم الأول من المراسلات مدار مشروع الكتاب.
ويكرس منيف عبر مراسلاته مع مروان أهمية الفن حينما يقول:« الأحاديث التي خضنا فيها، والأفكار التي تبادلناها جعلتني أثق أكثر من قبل، أن الفن يمكن أن يفعل شيئا مهما: أن يجعل البشر أكثر احتمالا، إن لم أقل أجمل..ربما اللون للبكارة التي يتمتع بها، وللحياد الذي يميزه، لايزال قادرا على أن يقول الأشياء بشكل جديد ومختلف».