في القطار الذي أقلني من باريس إلى لاهاي لأقدم روايتي الأخيرة «حيوات أخرى» والتي تُرجمت حديثاً إلى الهولندية، كان رفيق سفري كتاباً باللغة الإنكليزية بعنوان محطة الحجاز The Hejaz Railway يسرد فيه الكاتب الإنكليزي جيمس نيكولسون تاريخ المحطة ونشوئها في العهد العثماني، كذلك أهميتها الإستراتيجية خلال الحرب العالمية الأولى. السبب المباشر لإقامة سكة حديد بين دمشق والمدينة المنورة كان لنقل الحجاج، وذلك لتجنيبهم مشقات سفر مضنٍ على ظهور الجمال لمدة أربعين يوماً قبل وصولهم الى مكان الحج. رغم بداية انهيارها، تمكنت الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين من إنجاز سكة حديد طولها أكثر من 1800كلم لتصل إسطنبول بالمدينة المنورة عبر دمشق. لم أستطع ترك الكتاب جانباً هذه المرة والنظر من نافذة مقعدي إلى الخارج، ذلك أن المادة مشوقة فضلاً عن صور المحطة المرافقة للنص والتي تتوزع على صفحات عدة. أقرأ أن محطة الحجاز اقترنت تاريخياً بحملة لورنس العرب أثناء الثورة العربية الكبرى، ذلك أن الثوار استعملوا القطارات في حملاتهم ضد العثمانيين. ولا يُخفى علينا كم أظهر الفيلم الشهير «لورنس العرب» مدى أهمية المحطة خلال الحرب العالمية الأولى، حتى أن البعض اعتبر أن تاريخ لورنس العرب لكان أصبح مختلفاً لو لم تكن محطة الحجاز قائمة. هل بإمكاننا الآن التخيّل أن التنقل عبر القطار في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان متاحاً للإفراد من بلد عربي إلى بلد عربي آخر؟ من فلسطين إلى مصر إلى سوريا إلى الأردن إلى الحجاز فالمدينة المنورة، وبلدان عربية أخرى، فضلاً عن محطات توزعت في لبنان وسوريا وصلت الشرق الأوسط العربي بإسطنبول والتي كان ينطلق منها قطار الشرق السريع إلى أوروبا الشرقية وبعض أجزاء آسيا. ذلك القطار الذي جعلت منه الكاتبة أغاثا كريستي أشهر قطار في العالم عبر روايتها التي تحمل اسمه. كان ما زال إلى الأمس القريب قطار يسير بين دمشق وعمان. وفي زيارتي الأخيرة لمحطة الحجاز في دمشق قبل بدء الحوادث في سوريا، اكتشفت ان بامكان المرء ركوب القطار من دمشق إلى حلب، ومن حلب ينطلق قطار آخر برحلات غير منتظمة إلى إسطنبول، هي نتف رحلات يغلب عليها الطابع النقل التجاري، وتخضع لمزاجية مسؤولي سكة الحديد، فضلاً عن تدهور الخدمات وغياب الأمن. وإذا انتهى مجد القطارات في العالم العربي مع انتهاء الإمبراطورية العثمانية، ولم يساد التاريخ الحديث على إعادة تأهيل تلك المحطات فإن الآثار المعمارية للمحطات المنتشرة في الصحراء والمدن العربية ما زالت تغري الزائر لقراءة تاريخ السفر الجميل وتحويله إلى حكاية. منذ بدء إقامتي في فرنسا بتُّ استطيع السفر في القطار من باريس إلى فرانكفورت، أو أمستردام، او بروكسيل او أي مدينة غربية. يكفي بطاقة سفر والتقيد بشروط السفر في القطار. لسفر القطار متعة لا تقدمها أي وسيلة سفر أخرى. قد تكون الطائرة أكثر راحة، وبالتأكيد أكثر سرعة، إلا أن السفر في القطار يمنح الراكب متعة النظر والتعرف إلى جغرافية الأمكنة، وغنى الطبيعة بألوانها وفصولها، كذلك تلمّس حيوات الناس المنتشرة بيوتهم على جانبي سكة الحديد. فضلا عن انه يتيح للمرء تدوين الخواطر والأفكار التي تلهمها تلك التجربة خاصة اذا كان كاتبا أو صحفيا. هناك فضول معرفي يغذيه سفر القطار. كثير من كتاباتي بدأتها في قطار بين عاصمة غربية وأخرى. إلا أنني لا ولن أكف عن الحلم أن أسافر يوما وبالطريقة نفسها من عاصمة عربية إلى أخرى.