اللغة والفكر هما محط تميّز الرواية، وهما العنصران اللذان يجعلان من الرواية نصًا أدبيًا يلقى رواجًا شائعًا عند القراء وبالخصوص في زمن أضحت الرواية فيه ولودًا تنافس بعضها البعض كمًّا ويبقى الكيف خاضعًا للمحورين: الفكر واللغة.
عندما تقلّب مخيالك في شيوع رواية للعالمية أو شهرة روائي على صعيد عالمي لا أخالك تحيد عن أحد هذين العنصرين إن لم يكن كليهما وتبقى تقنيات الرواية عاملاً مهمًا يقارب موازاة هذين العنصرين.
ولقد استطاع الروائي السعداوي في روايته (فرانكشتاين في بغداد) أن يتفوق في عنصر الفكر، بيْدَ أن لغته الروائية وأسلوبه اللغوي لم ترتقِ إلى ما وصلت إليه أفكاره في الرواية.
ونلمس هذا حينما تجتمع بنيات الرواية على مركزية الإنسان بعمق فكري فلسفي تنظيري يُشبع نهم القارئ العربي الذي باتت فيه روايته العربية تحوم حول مواضيع مكرورة لا تكاد تتعداها، فجمع الروائي شتات الإنسان الذي فجرته قنابل الإنسان في إنسان (الشسمه)، فالإنسان هنا هو الخصم و الحكم وهو ذاته القاتل المقتول ولا ينتقم للإنسان سوى الإنسان، لكن المنتقم هو جزء من المُنتقم منه وذلك حينما تجمعت أجزاء (الشسمه-الذي لا اسم له-فرانكشتاين) من أجساد الأبرياء الذين مزقهم الإنسان، ويؤسس هادي العتاك (الإنسان الحقيقي) أجزاء الشسمه (الإنسان الخيالي)، فيجتمع الإنسان بنوعيه: الحقيقي والخيالي لينتقما لهذا المقتول ظلمًا إثر سلسلة التفجيرات التي ابتليت بها بغداد، لكن السؤال هل يمكن أن يوقف هذا الخيالي ظلم الإنسان للإنسان؟!
الجواب هو أن تدخل الأطماع البشرية (الأمريكية والداخلية المرتزقة) لم يدَعوا فرصة حتى للخيالي أن يوقفهم عن الظلم بسبب اعتقالهم للشسمه، لكن العتاك لا يزال على قيد الحياة مع قطّته ليصنع خيالاً آخر يكمل مسيرة الانتقام والقضاء على القتل والتفجير.
إن تشعب توجهات شخصيات الرواية تعطي للروائي مساحة شاسعة لتحليل الفكرانية وتعميق التفلسف في ردم صدع الواقع البئيس الذي يحياه الإنسان وهذا ما امتازت به رواية (فرانكشتاين في بغداد) حينما نُلفي شخصيات الرواية من توجهات شتى دينية (يهودية،مسلمة،مسيحية)، وطنية(خائنة،نزيهة)، جنسية (مصري،جزائري،أمريكي) كل هذا التنوع في الشخصيات يحيلنا حتمًا نحو عمق هاته العلاقة وتشكيلاتها لعلاقة فكرية تنزاح اتجاه الواقع.
وتصور الرواية لنا الحق مظلومًا محاربًا فاشلًا ينتهي بالخسارة أمام الظلمة الشهوانين الذين يريدون السيطرة على الإنسان وما يملكه هذا الإنسان أيضًا، فتُغلق دائرة المتابعة النزيهة التي تخلص لوطنها من قِبَل المنتفعين وتصادر أملاكها، ويُطارد النزهاء (السعيدي) ويُحقق مع المخلصين (السوادي) ويُعتقل الأطهار(الشسمه) بينما يسرح في الأرض ويمرح الذين يخططون للاغتيالات والتفجيرات حتى يظهر المنتفع أنه هو وحده المخلص الذي سيقضي على الخونة/الأطهار يومًا من الدهر.
وأعتقد أن حيازة الرواية على تنظيرات فلسفية يعمق في ذاكرتنا تقبلها باعتبارها رواية فلسفية تحمل فكرًا عميقاً وتنظيرًا لإشكالات واقعية يعاني منها المجتمع وهو ما يراه إميل زولا في الرواية بقوله: (إن الرواية قد صارت هي البحث العام في الطبيعة وفي الإنسان ) (كتاب مدخل إلى نظريات الرواية بيير شارتيه)، ونلحظ هذا التفلسف والتنظير عند شخصية(محمود السوادي) في مقالته عن فكرة العدالة بجعلها مناطة بعدالات ثلاث لا ينفك الظالم عن أحدها وهي: عدالة السماء، و عدالة القانون، وعدالة الشارع، وطبق هذه النظرية على المجرم (الكوربان) فعندما فلت من العدالتين الأوليتين وقع في عدالة الشارع فقتله بعض من لهم ثأر معه وهو يمشي بسيارته في أحد الشوارع، وهذا التنظير الفلسفي يوحي بعمق فكري يمتاز به الروائي فهو يكتب أفكارًا وفلسفة وليس كلامًا مرصوفًا يعبئ به الورقات ويداعب به عواطف القارئ والمتلقي بل إنه يحفر في الفكر ليولد بُعدًا تنظيريًا فلسفيًا يشارك به القارئ في حلول مشكلاته التي يعانيها.
إن المزج بين الخيالي والواقعي (السريالي) في الإبداع الروائي فن يلقى رواجًا عند القراء والمتلقين ويشهد لهذا شهرة روايات المبدع الروائي العالمي غابرييل ماركيز الذي تفنن في هذا الاتجاه حتى أصبحت كتاباته الروائية عَلَمًا في هذا العصر، وقد أبدع السعداوي في روايته هذه بالمزج بين العجائبي والواقعي حينما ابتدع شخصية (الشسمه) وجعل له وزراء عجائبيين خدم له يبتغون رضاه ويساعدونه في الاقتصاص من الظالم، ويزيد هذا الاتجاه رسوخًا بعدما نعلم أن العجائبية تعطي مجالاً رحبًا للتفكير في النص الأدبي بل إنها تتيح للناقد مساحة كبرى لتأويل النص والتفاعل والتحاور معه وتتيح له أيضاً إعمال عدد من النظريات النقدية في الحين الذي لا تسمح به بعض النصوص إلا بمنهجٍ أو مناهج محددة لسط حية النص ووضوحه وتفسيره لذاته بذاته، وهذا ما لا نراه في هذه الرواية التي تُشبع نهم الناقد وتغريه بالحوارية والتفاعل معها.