لا تقدّم البلاغة العربية نفسها بوصفها منهجاً لدراسة الشعر ولا النثر، وإنما اهتمامها منصب بشكل رئيس على قياس النبض الانفعالي والتأثيري في اللغة عموماً في أي كلام كان، ولهذا عرّف العلماء (البلاغة) بأنها (مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته). من هنا يظهر بأن البلاغة العربية ما هي إلا مجموعة من الأدوات أو الأشكال التي تبحث في قدرة اللغة على الأداء الدال أو الانفعالي المؤثر.
وبناء على هذا يمكن القول بأن البلاغة العربية بشكلها الموجود في كتب التراث تحتاج إلى منهج ما عند توظيفها في دراسة النص الشعري، فأدوات البلاغة مثل مجموعة من حبات اللؤلؤ الموضوعة في وعاء، لا يمكنها أن تصنع عقداً نفيساً إلا اذا انتظمها خيط ناظم يجمعها ويرتّبها بطريقة معينة. ولهذا نحتاج إلى منهج أو طريقة لترتيب هذه الأدوات البلاغية عندما نريد أن نطبّقها في دراسة الشعر أو دراسة النثر، هذا المنهج قد يكون واحداً من المناهج النقدية الموجودة مسبقاً كالأسلوبية أو النصية أو البنيوية وغيرها، أو أن نترك للنص اختيار المنهج الذي يتناسب مع معطياته العاطفية والدلالية. ولهذا ستحاول هذه السطور تقديم منهج مقترح لتوظيف أدوات البلاغة في قراءة النص الشعري.
ينطلق هذا المنهج المقترح من فكرة تزعم بأن القضية التي تشغل النص ومنشئه سيكون لها بكل تأكيد تجلياتها في الصوغ الفني والأسلوبي للنص الشعري. ولهذا يفترض أن يسعى الدارس إلى معرفة القضية الكبرى التي تشغل هواجس النص ليعرّي ضلوعها في الصوغ البلاغي والأسلوبي. لقد خلص د.مصطفى سويف في دراسته للأسس النفسية للإبداع الشعري إلى القول بأن العمل الشعري هو محاولة من المبدع للوصول إلى حالة من التوازن والاستقرار النفسي تجاه معاناة أو تجربةٍ ما.
وفي كتابه (الإبداع) ادّعى عابد خزندار وحدة موضوع الإبداع حول قضية واحدة تتمثّل في صراع الإنسان بين الوجود والعدم، والحق أن جوهر الحياة الإنسانية كله يتمحور في صراع يخوضه الإنسان من أجل الوصول إلى حالة من الاتزان والاستقرار بين وجودين نقيضين، بين الحياة والموت، بين الفقر والغنى، بين الصحة والمرض، بين السعادة والشقاء...الخ.
وهذا هو مايحدث تقريباً في العمل الشعري، فالإبداع الشعري يعدّ تصويراً لغوياً عاطفياً لحالة من حالات الصراع الداخلي في نفس المبدع للوصول إلى حالة من التوازن بين وضعين نقيضين. لهذا يُفترَض بالباحث أن يحدّد العالَم أو القضية التي يتجلّى فيها الصراع بين هذين العالمين النقيضين داخل النص الشعري. هذه القضية سيتجلّى انعكاسها كما سبق القول على الأشكال البلاغية والأسلوبية والتعبيرية التي يبني عليها المبدع نصه الشعري، ومن هنا يُفترض أن يسعى الباحث إلى جمع كل هذه الأشكال البلاغية التي انعكست فيها قضية النص، لإيضاح مدى تأثر صياغاتها وتشكيلها بهذه القضية.
ثم يعمد الباحث بعد ذلك إلى توزيع الأشكال البلاغية التي تمكّن من رصدها على العناصر الأربعة الرئيسة التي تمثّل جوهر العمل الشعري، وهي: الأفكار والدلالات، والبناء اللغوي، والصور الفنية، والإيقاع الموسيقي. فعلى الرغم من تعدد المناهج النقدية التي تقارب النص الأدبي لقراءته وتحليله، إلا أن هذه المناهج على اختلافها تهتم بشكل كبير بتناول هذه العناصر الأربعة الرئيسة التي تعطي النص الأدبي خصوصيته الفنية، فهذه الأربعة تكاد تكون محل اتفاق معظم الدراسات النقدية التقليدية والحداثية، ويمكن أن نتلمسها مثلاً في كتاب (النقد الأدبي) لسيد قطب الذي يقول: ((إن وظيفة التعبير في الأدب لا تنتهي عند الدلالة المعنوية للألفاظ والعبارات، بل تضاف إلى هذه الدلالة مؤثرات يكمل به الأداء الفني وهي جزء أصيل من التعبير الأدبي. هذه المؤثرات هي الإيقاع الموسيقي للكلمات والعبارات، والصور والظلال التي يشعها اللفظ وتشعها العبارات زائدة على المعنى الذهني، ثم طريقة تناول الموضوع والسير فيهن أي الأسلوب الذي تعرض به التجارب وتنسق على أساسه الكلمات والعبارات).
هذه الأربعة التي ذكرها سيد قطب (الإيقاع، الدلالات، الصور، الأسلوب) هي أيضاً ما ينظر إليه أصحاب الدراسات النقدية المعاصرة في النص الأدبي، حيث يرى د.عبدالله الغذامي في كتابه (تشريح النص) بأن الأدب ((يسعى إلى إحداث الانفعال في النفس، أو إثارة الدهشة. ولتحقيق هذا الهدف يجب أن ننظر إلى العمل الأدبي من منطلقات نحددها فيما يخص الشعر بأمور، هي:
1- اللغة.
2- استخدام الأسطورة بوصفها تعبيراً مجازياً عن مقصد الشاعر.
3- الصورة.
4- الإيقاع.
إن هذه الأربعة تتشابه مع ما ذكره سيد قطب، ذلك أن الأسطورة يمكن إدخالها في مبحث الدلالات، فالأسطورة تهدف إلى بث دلالة ما في النص الأدبي، وهذه الأربعة هي محلّ اتفاق كثير من كتب الدراسة الأدبية التطبيقية مع تغييرات طفيفة جداً. وبهذا يمكن اعت ماد هذا المنهج في مقاربتنا البلاغية للقصيدة محل الدراسة، إذ إن الوحدات التي ستُدرَس في التعبير الشعري، هي:
1- المعاني والدلالات.
2- البناء اللغوي.
3- الصور الفنية.
4- الإيقاع الموسيقي.
ثم نقوم بتوزيع الأشكال البلاغية على هذه العناصر الأربعة، فمباحث علم المعاني تدخل ضمن البناء اللغوي، ومباحث علم البيان تدخل ضمن الصور الفنية، والبديع اللفظي يدخل ضمن الإيقاع الموسيقي، وهكذا يتم توزيع الأشكال البلاغية بحسب ارتباطها بواحد من هذه العناصر الأربعة، محاولين أن نكشف في كل عنصر من العناصر الأربعة عن تأثير قضية النص الكبرى على صوغ الأشكال البلاغية المتصلة به.
لكن يجب التأكيد على أن البلاغة العربية تدور غالباً في فلك الجملة الواحدة، وهي جهد بشري رائع في رصد جماليات ودلالات اللغة، ولكن يمكن أن يُضاف إليها أيضاً بعض منجزات النقد المعاصر مما لم تقف عنده البلاغة العربية كثيراً، مثل العناية بالجانب الصوتي أو الصور الكلية أو التناص ونحو ذلك، ولعل مقالة قادمة بإذن الله تكشف عن ذلك بشكل تطبيقي.