سبق أن ذكرنا أن الحقيقة، في أقدم معانيها وأبسطها وأقربها إلى الأذهان، هي المطابقة بين الفكرة التي في الذهن والأشياء أو الظواهر التي تتعلق بها. ينتج عن هذا أن الرأي يكون صادقا متى كان مطابقا للمتعلق به ويكون كاذبا متى لم يكن كذلك. غير أن لمختلف العناصر التي يتكوّن منها الوجود، حسب هذا الفهم، ظاهرا متحوّلا وجوهرا ثابتا. لهذا عدّت الحقيقة علاقة تطابق بين الفكرة عن الشيء وجوهره الثابت.
على هذا المفهوم الشائع للحقيقة سارت البشرية في معظم ما حصّلت من معارف وعلوم وبلورت من مفاهيم ونظريات مستعملة في ذلك كثيرا من التحوّط سواء في العلوم، وهي أكبر منتج للحقائق، أو المنطق.
وبصرف النظر عمّا في الوصول إلى عدّ «الحقيقة» حقيقة وفي ما في ذلك الوصول من ألوان التحرّي والتثبت، وهو ما أولاه الفلاسفة والإبستيمولوجيون عناية كبيرة ولطفوا فيه النظر، كان معظم ما يعدّ « حقائق» إخبارات عن العالم والوجود والإنسان وقوانين تهدف، في جلها، إلى بسط السلطان على الطبيعة لتطويعها أو تسخيرها. لكن هذه الحقائق أو ما يعدّ منها كذلك إنما كانت تتعلق بالموجود بَعْدُ في الوجود والحاصل القائم من ظواهره وأشيائه. فهي إذن مشدودة إلى ما كان أو كان وظل مستمرّا خارج الذهن وخارج الكائن المفكر. وحتى عندما يكون المفكـَّر فيه كائنا في المفكـّر نفسه كالحسّ والعواطف والأفكار فإنه يعدّ موضوعا قائما بذاته يدرك في حدودها بصفة موضوعية.
أما الأدب فيبدو مختلفا عن الموضوعات والظواهر التي تتناولها البشرية بالتفكير. ومكمن الاختلاف أن الموجود في الأعمال الأدبية لا وجود له في الواقع. إنه عوالم متوهمة ومتخيلة ومبتدعة ومختلقة لا كيان لها خارج النصوص التي ترد فيها. وهذا أمر شائع التداول، فالأدباء يذكرون غير الواقع وغير المجرّب وغير القابل للتثبت من حصوله أصلا. فهل يمكن، في هذه الحال، أن نزعم أن الأدب يحمل معنى ويفصح عن حقيقة؟
اتجه معظم الباحثين، في سعيهم إلى تجاوز هذا الاختلاف، إلى التأويل ينشدون به المعاني التي يعتقدون أن الأعمال الأدبية تحملها والحقائق التي تفصح عنها. وهذا موقف ينطوي عل كثير من القضايا. فهو يقوم على الاعتقاد في أن الأدب يخبر عن الواقع والوجود مثلما تخبر عنه أجناس الكلام والمعارف لكن بطريقة غير مباشرة (مفهوم « الطريقة غير المباشرة» قد جاؤوا به لتجنب التعامل مع الأعمال الأدبية تعاملا حرفيا). ثم هو يقوم على الاعتقاد في أن للأدب مظهرا أو معنى سطحيا وجوهرا أو معنى عميقا وهذا من باب الافتراض لا غير.
والذي في هذا الموقف أنه يطرح أسئلة كثيرة بقيت الإجابة عليها شديدة الغموض. فما الذي يجعل الأدباء يعبّرون عن المعنى والحقيقة بواسطة الخطأ والتوهم والتخيل والاختلاق يصوغونهما في أعمال لا تتعهّد بالواقع علاقة محاكاة؟ أليس في المباشرة ما يغني عن مثل هذا التكلف والتعمّل وما فيهما من كدّ للذهن؟ هل يقتصر الأمر على ما في التخيل من « لهو» و»متعة» و»استطراف»؟ ثم كيف يوصل اعتمادُ الخطأ والتوهم والتخيل والتخرّص والاختلاق إلى «الحقيقة»؟ وهل ما يصلُ إليه المؤوّل على أنه حقيقة هو فعلا « الحقيقة» التي تحملها الأعمال الأدبية؟
إذا قلنا، من ناحية ثانية، إنّ الأعمال الأدبية لا تحمل حقيقة عن العالم والوجود أو تعمل على إبلاغ رسالة عن الوضع البشري فما بالها تلحّ على الإيهام، إلى حدّ الإسراف أحيانا، بأن العوالم التي تصوغها قائمة الذات في الواقع موجودة فيه؟ ما طبيعة العلاقة إذن بين ما تذكره الأعمال الأدبية والواقع؟ هل هي تقطع معه قطعا نهائيا منصرفة عن « الحقيقة» فيه؟
في الإجابة عن هذه التساؤلات يذهب، اليوم، باحثون غير قليلين، إلى أن الأعمال الأدبية لا تخلو من إحالة على خارج أو تمتنع عنها، فهي تـُحِيل فعلا من حيث تستعمل اللغة ومن حيث هي خطاب. غير أنها لا تحيل على موجود في الواقع حاصل في الخبرة والكينونة، وإنما تحيل على متوهّم خارجه. وبما أن الحقائق إنما تلتمس في الموجودات لا في المتوهّم والمختلق والمتخيّل كانت الحقيقة في الأدب مختلفة عن الحقائق المنشودة بالطلب في الموجودات. فما الذي تنهض به الحقائق الكائنة في الموجودات؟
المشكل في الحقائق، عامة، أن كلا يبحث عنها ويدّعي امتلاكها ذاهبا إلى أن من يختلف معه فيها على خطأ. ثم إن كلا يدّعي أن الحقيقة التي أدركها هي التي فيها نفع البشرية وصلاح أمرها وتحسّن أوضاعها. إنها تضمن نجاة البشرية ممّا يواجهها من أخطار وتتخبط فيه من فظاعات ومصائب وويلات. الحقائق إذن لا تطلب لذاتها وإنما تطلبها البشرية لأنها تعوّل عليها في أن يستمرّ النوع البشري في الكون والكون في الاستمرار وفي أن يكون العيش فيه ممكنا يسيرا قليل الأذى. لذلك يقوم حولها، دائما بين الناس، خلاف كثير ما يتحول إلى صراع. إنها تعتبر، في المتصوّر العام، نافعة دائما، لذلك فهي دوما تمتدح ويثنى عليها حتى الإفراط في الإشادة بها. لكنها حقائق تتعلق بالموجودات التي حصلت بعد في الوجود وقامت فيه.
أما الحقيقة في الأدب فهي، بناء على أن الأعمال الأدبية لا تتحدث عن موجود تصوّره أو تحمل عنه رسالة أو تعبّر عن معنى كائن فيه، انعتاق وتحرّر من الخضوع إلى الواقع والمنطق الذي يشدّ تنظيم الوجود على نحو معتاد من القهر الذي تتسلط به الأنماط الاجتماعية الضاغطة والمفاهيم التي تشدّ من نظامها. وهذه الحقيقة الخاصة بالأدب تلتقي مع الحقيقة الأخرى المستمدة من التفكير في « الواقع» أي في ما هو موجود بعد وداخل في التجربة البشرية ومعبّر عنه. إنها تلتقي مع الحقيقة الأخرى في نزوعها إلى نفع البشرية بما تحصّله من اكتشافات وتضعه من قوانين إلا أنها تسعى إلى ما تسعى إليه بالعمل على تحرير البشرية مما استقر بعدُ ضاغطا عليها وكابحا لانطلاقاتها وذلك لا بتقديم أمثلة للموجود وإنما باقتراح أمثلة بدائل لما لم يوجد بَعْدُ وعرض احتمالات أخرى وممكنات أو صور مبتدعة، قد لا تتحقق أبدا، لتنظيم الوجود ولمنزلة الإنسان ودوره فيه.
إذا كانت الحقائق التي تنتجها العلوم الصحيحة والإنسانية ترمي، بتوسيع سلطان الإنسان على الطبيعة وتهذيب فهمه لنفسه وللعالم، إلى ضمان استمرار النوع البشري في عالم قابل لأن تستمرّ فيه الحياة وأن تزداد تحسّنا بدت وظيفتها الأساسية في» الحرية» التي تمكـّن منها: نعني الانعتاق من ضغط الحاجات والخلاص من القهر والتسلط والعدوان ومن استئثار البعض بالخيرات وحرمان البعض الآخر منها. إذا كان هذا هو المنشود كانت للأدب، من حيث هو انعتاق من الخضوع للواقع وللمعرفة التذكـّرية وممارسة فعلية للحرية، وظيفة الإيهام بإمكانات واحتمالات أخرى لتنظيم الحياة والحمل على اعتقادها. غير أن الأعمال الأدبية التي تكتنه، معتمدة التخيل والتوهم والاختلاق لما لم يحصل بعد بحكم أنه خارج الموجود، غيرَ المتمكـّن المشاهد وتحسن تنظيمه حتى يستوي معالم قائمة بذاتها ومقنعة، قليلة قلة مذهلة. فالحرية من أكثر المفاهيم سوءاً للإدراك والاستعمال، والتوفيق في الطرائق الفنية في التنظيم المحكم ونقد الموجود في منتهى الصعوبة، وفهمُ ذلك كله تقف دونه جبال من الحواجز والمعوقات من بينها، مثلا، الذهاب، بين الحين والحين، إلى أن الأدب « لا يصلح لشيء».
- إلى أن الأدب « لا يصلح لشيء».