الحرمان من الرضا يجعل كل شيء في مهب الريح، فالإحساس يُفقَد، والبسمات تُختَنق، والبليَّات تعظم والمصائب تشتد، ولن يكون الحصاد في النهاية سوى الحسرة والقهر والأسى، فسكون القلب بالرضا يحوقل أركان المرء ويجعل الرحمة تغشاه من كل جانب، فتستكين نفسه، ويطمئن قلبه، ولا يرى سوى الخير في كل حال..
وحين تعالج هذه الفكرة بالأدب فإنها تحتاج إلى أديب متميز يستطيع أن يشخصها، ويكشف عن خباياها، ويفتح فضاءات التأمل فيها، ويتمكن من إقناع المتلقي بأهمية الرضا، وأثره في حياته وأفعاله وتصرفاته، ولن تجد أديباً كالمنفلوطي بأسلوبه المتميز الرائق باعثاً لهذه الأحاسيس في كل خافق استولت عليه الأحزان وحاصرته المآسي، وفي هذه السطور سأورد جزءاً من نصٍّ له في هذا الموضوع، وأقف عند بعض دلالاته وجمالياته.
يقول المنفلوطي: ((إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدا أن يكون لك كما تريد في جميع شؤونك وأطوارك، وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي، فجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطلب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها، وعطائها ومنعها، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها حتى تكُرَّ عليها راجعةً فتستردها، وأن هذه سنتُها وهذه خُلتها في جميع أبناء آدم، سواءٌ في ذلك ساكن القصر وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء، ومن ينام على بساط الغبراء، فخفض من حزنك، وكفكف من دمعك، فما أنت بأول غرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان)).
هذا جزء من نص رائع خطه لنا أديب العربية ومبدعها المتميز مصطفى المنفلوطي، هذا النص الذي يفيض رضا وطمأنينة، ويدعو فيه كاتبه إلى الإيمان العميق بقضاء الله وقدره، والتوكل عليه في الشؤون جميعها، والتسليم بكل ما يأتي به الزمان من أفراح ومصائب، كل ذلك بأسلوب يكفي أن يقال عنه: إنه أسلوب المنفلوطي الذي قيل عنه إنه أبلغ كاتب في العصر الحديث من حيث رشاقة العبارة ورقة التعبير، وتصوير الحوادث تصويراً حقيقياً، فهو صاحب القلم البديع الجذاب المتفوق في جميع الأغراض والمقاصد، حتى سمي بحق (أمير البيان)؛ لما لأسلوبه من تأثير خاص على نفوس القارئين، فكأنه يكتب بكل لسان، ويترجم عن كل قلب.
يعنون المنفلوطي هذه القطعة الرائعة بـ(أيها المحزون)، وهو عنوان تدرك منه للوهلة الأولى موضوع النص، وأنه موجه إلى أولئك المحزونين الذين ربما سخطوا من المصائب وخالط قلوبهم اليأس وأصابهم الحرمان، يوجه إليهم هذه الأحرف المطمئنة والكلمات المتفائلة رغبة في الأخذ بأيديهم إلى الطريق الصحيح والتعامل الأمثل في مثل هذه المواقف وتلك المشاهد.
وفي هذا المشهد من هذا النص يعتمد المنفلوطي على أسلوب الشرط والافتراض لمخاطبة ذلك المحزون، ويعرض عليه احتمالاً منطقيا وافتراضا عقليا يبتغي من خلاله إيصال فكرته بأقوى أساليب الإقناع؛ لأنه يخاطب في هذا المقام محزوناً قد خالط قلبه بعض اليأس والإحباط من مواقف هذه الدنيا معه، ومن هذا حاله يكون صعب الإقناع والتصديق، ولذلك فأديبنا المتميز يحاول أن يتسلل إلى قلبه من خلال أقوى أساليب الإقناع والاحتجاج العقلي والمنطقي، ليكشف عن الحقيقة التي لا بد من مواجهتها والتسليم بها، ومن ثم التسليم بما يترتب عليها والتصديق بما ينتج عنها.
يخاطب المنفلوطي هذا المحزون المتألم متسائلا عن سر هذا الحزن الذي يشعر به الآن، ويقول له: إن كنت قد أخذت على الدهر عهداً أن يكون لك كما أحببت، وأن يصبح لك كما أردت، وأن يسير وفق هواك، ويأتمر بأمرك، أو أعطاك الزمان موثقاً أن لا يريك إلا ما تحب، وأن يصرف عنك ما تكره، إن كان الأمر كذلك.. فحينها يحق لك أن تحزن إن فاتك مأرب، ويجوز لك أن تبكي إن استعصى عليك مطلب، ولا ضير عليك أن تيأس إن أصابتك مصيبة، ولا مشكلة إن أنت عشت في دهاليز الحزن والألم واليأس إن أدارت لك الأيام وجهها، وخانك الدهر والزمان؛ لأنه بذلك قد غشتك الأيام ولم يف لك الدهر ولا الزمان، وأنت الذي قد أخذت منهم موثقا وعهدا راجياً أن يفوا لك.
والمنفلوطي هنا يوحي إلى المحزون ببراعة وجمال إلى ما وراء هذه الأسطر، وإلى ما خلف هذه الدلالات، فهذا المحزون يعلم أنه لم يأخذ عهداً من دهر ولا موثقاً من زمان، ويوقن أنه لا يستطيع التحكم بالأيام وما تأتي به من خير أو شر، فإذا تذكر ذلك عرف أنه لا معنى للحزن الذي يعيشه، ولا فائدة من اليأس الذي يصيبه، إذ إن انتفاء الشرط وهو أخذ العهد من الدهر يلزم منه انتفاء الجواب وهو الحزن واليأس والإحباط.
وبعد أن يقرر المنفلوطي هذه الحقيقة في ذهن هذا المحزون، يعمد إلى أسلوب الشرط مرة أخرى ولكن بطريقة مختلفة، وذلك كي يزيد من تأكيد ما قرره في بداية النص ويطمئن إلى نجاح إقناعه واحتجاجه، ويستخدم أديبنا الرائع التصوير والتجسيد والتشخيص لتقريب الصورة وإضفاء الجمال والإبداع على النص، فجعل الأيام وكأنها أشخاص جاعلاً لها أخلاقاً وطبائع وعادات لا يمكن تغييرها ولا يتصور تبديلها، ويوجه خطابه للمحزون مرة أخرى فيقول: إن كنت تعرف هذا الزمان بعاداته المعهودة، وتعلم طبائع الأيام وعاداتها التي لم تغيير ولن تتغير، وكنت توقن أن هذا الدهر له طريقة ثابت لا يمكن أن يحيد عنها في التعامل مع الإنسان، فيجب عليك حينها أن تخفف من هذا الحزن العظيم الذي تشعر به، وأن تحاول أن تكفف من دمعك الذي يفيض من عينيك، لأنك علمت أن الأيام لها خلة ثابتة وسنة واحدة في التعامل مع الجميع دون استثناء، سواء في ذلك الغني والفقير، والعزيز والذليل، والكبير والصغير، ومن أبرز هذه السنن والأخلاق التي هي معروفة عنها تعاملها في الأخذ والرد، والعطاء والمنع، وأنها ما إن تكرمك حتى تهينك، وسرعان ما ترجع عن عطاءها فتفاجئك بحرمانها، وأنها إن منحتك اليوم منحة، أصابتك في الغد محنة؛ لذلك فينبغي لك -والحالة هذه- ألا تنتظر أن يغير الدهر من تعامله معك، أو تبدل الأيام من تصرفها تجاهك، فأنت تعلم أن هذا لا يمكن أن يحصل إطلاقا، وما دام الأمر كذلك فاعمل بهذه المعرفة التي عرفتها، وسلم أمورك لخالقك، فإن حزنك ودمعك لن يغير من هذه الأخلاق والطبائع شيئا.
ويختتم المنفلوطي هذا النص المتألق بزيادة جرعة الاطمئنان، وإضافة لمسة الحنان والرضا والتسليم، وتكثيف التخفيف على هذا المحزون، وذلك بإشعاره أنه ليس بدعاً من هذا التعامل الزماني، وليس جديداً على هذه المواقف الأيامية، فما أنت أيها المحزون بأول شخص يصيبك الزمان بسهامه، وما أنت بأول إنسان يفجعك الدهر بمصائبه، فجريدة الأحزان والمصائب ملأى بالبشر الذين أدارت لهم الأيام وجهها، وقلبت لهم ظهر المجن، وهذا من شأنه أن يخفف عليك أيها المحزون، ويرسل إلى قلبك نسمات الرضا بكل ما يأتي به الزمان، ونفحات التسليم بكل ما تحمله الأيام.
لقد استطاع المنفلوطي أن يصوغ هذه المعاني الرائعة بأسلوبه الأخاذ، وألفاظه الرائعة، وتصويره المتألق، فأنت تشعر أنك أمام نص تحيط به هيبة الألفاظ بجزالتها، وجلالة المعاني وروعتها، أمام نص لم يقله كاتب محدث، بل أديب عبقري قد أمسك بزمام اللغة، وعرف روائعها، وتصرف بمفرداتها وأساليبها.
ولكن.. هل اكتفى أديبنا المتميز بهذا المشهد في خطابه الموجه إلى المحزون؟ وهل اعتقد أنه قد خفَّف عليه حزنه وهوَّن عليه آلامه؟ لا أظن ذلك.. فقد بقي مشهد آخر من هذه القطعة الرائعة.. سوف أقف عن روائعها وبدائعها في جزء قادم بمشيئة المولى.