كشفت محادثة لطيفة على تويتر بيني وبين الصديق الرائع الدكتور حسن النعمي الذي بدا حياته الأدبيَّة مبدعًا قصصيًا جميلاً، تميز بالقصص ذات النسق الإبداعي المتميِّز في الثمانينات والتسعينات الميلادية، ونشر عددًا من القصص القصيرة في الصحافة السعوديَّة المحليَّة، والقاص حسن النعمي صدرت له ثلاث مجموعات قصصية: هي: «زمن العشق الصاخب» (1984م)، و»آخر ما جاء في التأويل القروي» (1987م)، وهذه المجموعة بالذات، كانت بالنسبة لي مدرسة فنيَّة تعلمت منها الكثير، وآخر أعمال القاص حسن النعمي مجموعة قصصية موسومة بعنوان و»حدث كثيبٌ قال» (1999م)، وتحمل مجموعة «حدث كثيبٌ قال» التي تضم إحدى عشرة قصة بين نصوصها نصًا مبدعًا هو «حالة إغماء»، ويتحدث هذا النص عن حالة غيبوبة لحقت بزوجٍ، لم تجد زوجته حلاً لحالته إلا دحرجته، واستخراج مفتاح السيارة من جيبه، وقذفه كجثة في أحد مقاعد السيارة الخلفية، وحمله إلى أحد المستشفيات، لإنقاذ حياته بعد ما أصيب بحالة غيبوبة، كانت هذه القصة التي تعبّر عن حس (رامز) مبدع جميل، قد كتبتّ قبل أن يبدأ الصراع المجتمعي السعودي، ويتمحور حول قيادة المرأة للسيارة، وقبل أن يتحوّل صديقنا المبدع إلى رجل أكاديمي في جامعة الملك عبد العزيز، وهو أحد المشرفين على دورية «الراوي» التي تختص بالإبداع القصصي في الخليج، ويُصدرها النادي الأدبي بجدة، وينشطُ عبر ملتقيات ثقافية داخليَّة وخارجية، يتابع الفضاء السردي، وهنا -مربط المعنى من إيراد المحادثة العابرة عبر تويتر بيني وبين الصديق الدكتور حسن، إذ ألمح إلى أنّه كلف أحد طلابه في الدراسات العليا، للبحث في الرواية المحليَّة عن ملمح لحضور القضية الفلسطينيَّة، ولكن ذلك الطالب عاد إليه بعد فترة في مفاجأة وخيبة، ليعلن بأنّه لم يجد في الرواية المحليَّة ما يشفع له، بأن يخصص بحثًا لدراسة عليا في هذا الخصوص، فشعرت بألم يغوص في الأعماق، لأن ولا رواية من رواياتي السبع، لا يحضر في نسيجها العام ضفيرة، تتعلّق بالقضية الفلسطينيَّة، سواء كان ذلك عبر إحدى شخصياتها أو خطابها، وأذكر أن المذيع الرياضي الأستاذ رجاء السلمي، كان قبل سنوات يعدُ رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، وتحمل رسالته هذا الهاجس الفلسطيني النبيل، وتواصل معي والتقط من رواياتي، ما يمكن أن يغذي به دراسته، وبالذات روايتي الأولى ريحانة، ويمكن أنّه فعل أيْضًا مع غيري نفس الفعل، ولست أعلم بما انتهت إليهدراساته ومشروعه العلمي، وأجد في قول الصديق الدكتور حسن بعض الحقيقة، إذ كان ينظر للمشهد الروائي بعين المبدع لا الناقد، فالإبداع الروائي المحلي طغت عليه قضيتان محليتان، هما:
أولاً: حروب الخليج المتعاقبة من احتلال وتحرير الكويت، واحتلال وتحرير العراق وقبلهما الحرب الإيرانية، وقد مست هذه الحروب إنسان المنطقة، وعكست ظروف تلك الحروب القاسية، تأثيراتها النفسية والاقتصاديَّة والثقافية والسياسيَّة والدينيَّة عليه، وأصبغت على إنسان هذه المنطقة فيما نراه من تحولات عجيبة.
وثانيًا: فقد حملت كثير من النصوص الروائية المحليَّة، تأثير ما يسمى بالصحوة الدينيَّة التي حدثت في المجتمع السعودي، وعكست ردود فعلها في مناطق المملكة بحكم التنوع الثقافي والمجتمعي، لما تتمدد ثقافة رأسية كسلطة دون وعي أفقي، يرفض الحوار والمناقشة فتحدث ردود فعل، وأزمات عكستها كتابة كثير من المنتج الروائي.
كان لا بد من هذه السطور، لاستدرك لما دفعني إلى هذه الكتابة، وهي عبارة قرأتها في ذكرى رحيل الروائي الفلسطيني أميل حبيبي، وصاحب رواية تُعدُّ واحدة من أهم الأعمال الروائية العربيَّة «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، وهو عضو كنيست إسرائيلي منتخب لأكثر من مرة ضمن قائمة الحزب الشيوعي «راكاح»، والحائز على «جائزة الدَّوْلة للأدب « وهي أهم جائزة ثقافية في إسرائيل، الذي واجه في حينه هجومًا قاسيًا من النخب الثقافية العربيَّة في إسرائيل وفي العالم العربي لقبوله الجائزة، وهوجم كثيرًا ومن مختلف الجهات من اليمين واليسار في إسرائيل ومن القوميين والإسلاميين في فلسطين، وقاطعته أوساط ثقافية عربيَّة يمينًا ويسارًا وواجه الجميع بما فيهم حزبه نفسه، ولكنه دون شكّ كان وطنيًّا فلسطينيًّا على نحو خاص، ومؤثِّر عبر نزعة سخرية مؤلمة، كانت جزءًا من شخصيته، فرضته لكي يكون واحدًا من أهم الروائيين العرب، يمثِّل الكتاب في النصف الثاني من القرن الماضي، الذين تمثلوا القضية الفلسطينيَّة بكلِّ تشظياتها..
إميل حبيبي، اختار أن ينهي كل هذا الجدل المثار حوله أو أن يواصله، هذا جزء من سخريته، عندما أوصى أن يكتب على قبره عبارة «باق في حيفا»، وواضح أن ثمة إشارة هنا - إلى رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كن فاني الذي كان يقيم في المنفى، وتحوّل إلى أيقونة فلسطينيَّة بعد اغتياله في بيروت عام 1972 وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وقد أنتج إنتاجًا أدبيًّا غزيرًا، وغسان كنفاني الذي أحببته، وأحبه كل القراء العرب، يتذكرون له بالتأكيد روايته الشهيرة (رجال في الشمس) ويا للغرابة!!، فالرواية التي تدور أحداثها في منفذ صفوان الحدودي بين الكويت والعراق، وكأنها كانت تتنبأ في (رمزية) حادة لما سيحدث من حروب خليجية متعاقبة، وينطبق عليها ما يمكن أن يقال عن قصة (حالة إغماء) للدكتور حسن النعمي، فالنص المبدع نبوءة، مهمته أن يؤشر ويشير، وليس مهمته الإصلاح، فتلك مهمة السياسي وغيره من المتخصصين، وقد صرفت تلك الحروب المتعاقبة، نظر الإنسان في هذا المنطقة، وأبعدته في كلِّ المدن العربيَّة أيْضًا، عن متابعة تطورات القضية الفلسطينيَّة المحورية، وكان يجب أن تظل في واجهة الأحداث.
ورواية (رجال تحت الشمس) التي كتبت، وصدرت في بيروت عام 1963 هي عمل روائي، يُكتب عن التشرد والموت والحيرة، رواية تستلهم تجربة الموت الفلسطيني، وتحيله إلى سؤال تاريخي، يتردَّد صداه في الصحراء العربيَّة، فتروي الرواية قصة ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة، يلتقون حول ضرورة إيجاد حل فردي، لمشكلة الإنسان الفلسطيني المعيشية، وتتمحور الرواية حول كيفية الوصول بالتهريب، يحاول الهروب بهم مهرب (خصي) في رمزية مقصودة، وتهريبهم عبر المنفذ الحدودي إلى الكويت حيث النفط والثروة، فينتهي بموت شخصيات الرواية الثلاثة في منفذ (صفوان) داخل خزان، يموتون دون أن يستطيعوا أن يقرعوا جدران الخزان الذي كانوا بداخله، فكانت الرواية في حينها صرخة ضد الموت الفلسطيني، موت في خيام التشرد أو بالرصاص الإسرائيلي، وهو موت يتكرّر أيْضًا فوق الأرض العربيَّة.
وجوه مضيئة
والشيء بالشيء يذكر ما دمت في عالم تويتر، فما زال صديق طالما نغص علينا في كلِّ مساء، نلتقي فيه بتغريداته وتحليلاته السياسيَّة العقيمة الفجة، يذكرني بأستاذ سوداني لم يعرف السودان في حياته، وقد ولد في مصر ودرس وتزوج بنت خاله وحبيبته وإحدى بناتها، وعاش كل حياته بين مدينة الإسكندرية والرياض، كان يدرسنا بعد هزيمة 67م القاسية، والواقع أننا قد أحببناه، وهو يقود النشاط غير المنهجي، ونقضي معه كثيرًا من الزمن على خشبة المسرح، وكان يعشقه وزرع فينا حب المسرح، وشاءت الصدف بعد سنوات، فيصبح هذا الأستاذ زميلاً لي في العمل، فاكتشف أنّه فنان تشكيلي كبير، وقد توسعت علاقاته وأصبح صديقًا للوزراء في سهراتهم، ويحرص بعضهم على دعوته للسهر، وضرورة وجوده أكثر من الوزراء الملتزمين بقانون الدورية، لخفة ظله وتوزيعه للقفشات على الموجودين بلا مجاملات وبلا نفاق..
تغريدات صديقي السياسي وتحليلاته الفجة، ذكرتني بما روى لنا ذلك الأستاذ السوداني القديم، فقال: كنت أمشي في شارع البطحاء بعد الهزيمة، ولم يكن في مدينة الرياض غيره مكانًا للتواجد البشري، وقبل أن تنفجر المدينة بالكثافة السكانية وتتمدد أطرافها في كلِّ الجهات، فرأيت رجلاً عجوزًا يربط رأسه بخيط أبيض، وجلس على الرصيف ليبيع مجموعة من الخرد، كالأمشاط ومقصات الأظافر والخيوط والأحذية القديمة، ولفت انتباهي بينها منظار حربي، فملت على الرجل بقصد شراء المنظار، فبادرني بقوله:
من أيّ البلاد أنت؟
فقلت له، وأنا أتأمل لحيته الحمراء المحناه، وثوبه الواسع، وجلسته المتربعة على رصيف الشارع:
- من السودان؟
وسأل مباشرة قائلاً:
- أين تقع هذه السودان؟
فحبكت معي، وقلت له:
- وراء البحر.. إذا رحت جدة، ستشاهدها من هناك..
ولم تنته أسئلة ذلك العجوز، وهنا - ما جعل صديقي يذكرني بخفة ظلِّ ذلك الأستاذ السوداني، لما قال له العجوز من جديد، متسائلاً:
عبد العزيز، من حط أميرًا عليكم؟
- عبود!
أجاب الأستاذ السوداني الذي لم يعرف السودان مطلقًا، وعبود الذي أعجب ذلك العجوز، وهز له رأسه، كان أول رئيس للسودان بعد تحرّرها من الاستعمار الإنجليزي.