Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد
07/06/2014

العينُ العاشقة (3)

«واسترجعتْ سألتْ عني فَقِيل لَها

ما فِيهِ من رَمَقٍ، دقّتْ يداً بيَدِ.

وأمطرتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ

ورداً وعضّتْ على العنّابِ بالبَرَدِ»

نعم، هي روعة النرجسِ والعنّابِ والبَرَدِ متمثلاً في خيال يزيد بن معاوية الخصب في وصف معشوقته بعربية عالية فارعة، وشعرٍ بديع عظيم خالد عذب، وتلك هي ملامح من العينِ العاشقة في عربيتنا التي تنساب مع العيون التي نلتفت إليها مبكراً حين تشدنا بالتفاتاتها العابرة الآسرة، وهي نوافذ الأرواح التي نلتفت إليها في الغالب تالياً، وكم من عيون أسعدتنا وأبكتنا، وكم من عيونٍ أبكيناها وأسعدناها عبر رحلة الأيام السريعة.

والعيون، كما اكتشفت مع القراءة والتأمل والتجربة، وكما كتبت عنها هنا: نوافذ البشر، وهم مهما حاولوا كتم أسرارهم فإنها لها كاشفة، فالصب تفضحه عيونه، وهي ساحرة كعيون المها التي سحرت العربي بين الرصافة والجسرِ، حين جلبن له الهوى من حيث يدري ولا يدري، فأذاع وأعلن حبه شعرا. وهي تدعونا فتسحبنا إلى قاعها، وتحنو علينا فترفعنا، وبعض العيون غامضة واضحة، وبعضها أليفة متوحشة موحشة، كحالة السياب الغريب على الخليج حين يمطر إبداعا:

« عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ،

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ.

عيناك حين تبسمان تُورِق الكرومْ

وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهَرْ.

يرجّه المجدافُ وهْناً ساعةَ السحرْ.

كأنما تنبض في غوريهما، النجومْ..

وتغرقان في ضبابٍ من أسى شفيفْ

كالبحرِ سرّح اليدين فوقه المساء،

دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريفْ،

والموت، والميلاد والظلام، والضياءْ،

فتستفيق ملءَ روحي، رعشةُ البكاءْ

ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانقُ السماءْ.».

وقد تكون العيون ناعسة فاترة، لكنها قد تكون عدائية ماكرة أيضاً، وهي ساهرة عامرةٌ بالحزن في جل قصائد العذريين، والعشاق، والمغتربين، يترجون من يعينها ويحنو عليها، كما هو في حنين الصّمّة القشيري:

ألا من لعينٍ لا ترى قلل الحمى

ولا جبل الأوشال إلا استهلّتِ

ألا قاتلَ اللَهُ الحمى من محلّةٍ

وقاتلَ دنيانا بها كيف ولّتِ

غنينا زماناً بالحمى ثم أصبحتْ

عراض الحمى من أهلها قد تخلّتِ

وقلت لأصحابي غداةَ فراقها

وددتُ البحورَ العامَ بالناسِ طمّتِ

فتنقطع الدنيا التي أصبحتْ بهم

كمثلِ مصاباتٍ على الناس عمّتِ

أقول لعثمان بن وهبٍ وقد رأى

سحوقي جرتْ فيها دموعي فبلّتِ

ألِكني إلى طيّا ألِكْني لحاجةٍ

من الحاج قد همّتْ بنفسي وهمّتِ

بآية ما سارتْ فلما تمكنتْ

حبائلُها من شعبةِ القلب حلّتِ

لعمري لئن أحببتُ طيا وآثرتْ

عليّ العِدا ما سنةَ العدلِ سنّتِ

فوجدي بطيّا وجدُ أشمطَ

راعهُ بواحدِهِ داعي المنايا ألمّتِ

ووجدي بطيّا وجد هيماءَ حُلِّيَتْ

عن الماء كانت منذ خمسين ضلّتِ

إذا سافت الأعطانَ أوْ شمّت الثرى

رماها وليُّ الماءِ عنه فولّتِ

وإنْ أشرفتْ من آكم الماء ميفعاً

لوَتْ رجلَها اليسرى بالِأخرى فحنّتِ

يا لعين الصمة الثرية المثرية!!

والعين هي منبع الدمع، وهي كذلك منبع الماء، وعيون الجوا تاريخٌ وماء. والعين مقرونة بالحب، لكنها مقرونة بالحسد والكراهية والحماية منهما، ونحن نلجأ للمعوذات في قرآننا الكريم كل حين، (ومن شرِّ حاسدٍ إذا حسد)، ولعل في تاريخ مصر القديم عبر مدافن الفراعنة وجداريات الأهرامات، أو الشعبي الحديث نسبياً ما يشير إلى ذلك، فهي « عينٌ لم تصلّ على النبي «، فيما يعبر عنها في الكراهية والعدائية والثأر بأنها عيونُ تتطاير شرراً!!وقد اشتغل الفن على العيون كثيراً في كل فروعه، لكن أغرب عينين شغلتا العالم كانتا للموناليزا أو الجيوكندا لليوناردو دافنتشي.

وللأساطير نصيب من العيون فتلك هي زرقاء اليمامة وقصة عينيها الشهيرة المثيرة، ومن كتاب آثار البلاد وأخبار العباد: «زرقاء اليمامة، كانت ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، ولما سار حسان نحو جديس قال له رياح بن مرة: أيها الملك إنّ لي أختاً مزوجة في جديس واسمها الزرقاء، وانها زرقاء ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، أخاف أن ترانا فتنذر القوم بنا. فمرْ أصحابك ليقطعوا أغصان الأشجار، وتستروا بها لتشبهوا على اليمامة. وساروا بالليل فقال الملك: وفي الليل أيضاً؟ فقال: نعم! إن بصرها بالليل أنفذ! فأمر الملك أصحابه أن يفعلوا ذلك، فلما دنوا من اليمامة ليلاً نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حِمْيَر. فكذبوها فأنشأت تقول:

خذوا حذركم يا قوم ينفعكم

فليس ما قد أرى مل أمر يُحتقرُ

إني أرى شجراً من خلفها بشرُ

لأمرٍ اجتمعَ الأقوامُ والشّجرُ

فلما دهمهم حسان قال لها: ماذا رأيت؟ قالت: الشجر خلفها بشر! فأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جُو، وكانت المدينة قبل هذا تسمّى جُواً، فسمّاها تبّع اليمامة وقال:

وسَمّيتُ جُوّاً باليمامة بعدما

تركتُ عيوناً باليمامة همّلا»

وكما لدينا في تاريخنا هنا، فكذلك لديهم هناك عينا ميدوزا الإغريقية التي تحيلُ البشر إلى حجر. وكما أن للبشر عيوناً مجيبة متسائلة، فإنّ لكل الكائنات الحية أعين، لكن هنالك فرق بين أعين الصقور الثاقبة القاتلة عن بُعد، وأعين النمور المراقبة المخاتلة الحافلة بالطرائد عن قرب، إلى عيون جذور شجرتها من القطط الشقية المتلاعبة التي لا تقل عنها ذكاءً واحتيالاً واقتناصاً وجمالاً!!

- الرياض
mjharbi@hotmail.com