Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد
07/06/2014

وأنا أترحّم على الخويطر تذكرتُ الصافي

من دون تصنُّع أو تواضع لا أجيدهما أساساً، أعرفُ ويعرفُ القريبون مني والمتابعون لتجربتي مع الكتابة والشعر أن ثمة تحوّلات كبرى في أوقات تكاد تكون خاطفة كانت نتائجها الاستثنائية مدهشة لي قبل غيري؛ والواقع أنني لم أعطها حقها من الكلام، لذا يراني من يعرف بها مقصراً ويحرّضني أن أكون وفياً أكثر مع أسباب تلك التحولات التي حصدتُ من نتائجها حتى يكاد يطمرني الحصادُ. ووالله ما منعني إلاّ التوجّس من سوء الظن بأنني أتملّق أو أتزلف لمن لا يزالون متصدرين الواجهة في المناصب العليا..

أمّا حين سمعتُ بخبر وفاة معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، الأسبوع الماضي، فمع دعواتي له بالرحمة وخير الجزاء، لم أجد بدّاً من استحضار واقعة يتيمة حدثت لي معه وكانت سبباً مثمراً لتحوّل كبير بالنسبة لي.. فقد كنتُ في بداياتي المتعثرة، وكان هو وزيراً للمعارف التي تركتُ مقاعد الدراسة فيها مبكراً وفي قلبي حسرة على ذلك الترك الاضطراري، ولم يكن لي من عزاء سوى الكتابة شعراً ونثراً - ولم أكن أجيد كتابة سطرين من دون أخطاء! - حتى خيّل لي أنني أصبحتُ شاعراً وأديباً، فأصدرتُ ثلاثة كتيبات صغيرة جامعاً فيها ما نشرته في الصحف، ورحتُ أرسل إهداءات إلى شخصيات كنتُ أراها الأبعد مسافة في الدراسة والمعرفة، وكان وزير المعارف في ذلك الزمن، الدكتور عبد العزيز الخويطر، من أوائل من راسلتهم مهدياً له تلك الإصدارات الهشّة – التي تبرّأتُ منها لاحقاً طبعاً – فوصلتني منه آنذاك رسالة أبويّة تؤكّد عليّ بأنني أمتلك موهبة تنقصها اللغة الصحيحة، وكانت مع الرسالة نسخة من الجزء الثاني لكتابه (أيْ بُنيّ) الصادر حديثاً في العام 1990 كإهداء منه. فهل أكبرتُ ذلك وقتها؟ أعترفُ الآن أنني تألمتُ في ذلك الوقت ولم أفرح، غير أن الألم كان دافعاً لي باتجاهٍ أتيه فخراً به الآن كلما تذكرته؛ فقد أتلفتُ تلك الإصدارات الرديئة الممتلئة بالأخطاء، وذهبتُ إلى مكتبات كثيرة – هنا وفي دول عربية أخرى – أشتري كل ما يتعلق باللغة والنحو وعروض الشعر وأوزانه وقوافيه، وبفنون الكتابة الأدبية عموماً، ثم دخلتُ في عزلة أشبه بالزنزانة في شقتي الصغيرة، لمدة عامين متواصلين، قرأتُ فيها ما يساوي قراءات عشرين عاماً لأيّ طالب علم وثقافة عاديّ، لأنني كنتُ أقرأ عشرين ساعة في اليوم بينما القراءة المعتادة لمن يريد معرفة واطلاعاً لا تتجاوز ساعتين في اليوم عند أغلبية المثقفين..

ذلك، باختصار أحسبه واضحاً، كان دور الدكتور عبد العزيز الخويطر – رحمه الله – في دفعي نحو الاتجاه الذي يعوّضني عمّا افتقدته من أدوات للكتابة بفقدي الدراسة النظامية من ضمن ما افتقدتُ؛ وما دمتُ قد أتيتُ على ذكر تلك المرحلة المحرجة من تجربتي تحديداً – مطلع التسعينيات الميلادية – فلا بد أن أذكر دور رجل آخر، كان مشابهاً في التأثير بالنسبة لي ومتزامناً بالتوقيت – مع الفوارق الاعتبارية بين الشخصيتين كان الدور مماثلاً! - غير أن الرجل الذي أعنيه لم يعد في الواجهة الثقافية كما كان في ذلك الزمن، وأرجو من الله أن يكون بخير.. وأقصد الأديب الأستاذ علوي طه الصافي، الذي كان رئيس تحرير مجلة الفيصل، وكان ملء السمع والبصر في ساحتنا الثقافية، وكنتُ أرسلتُ له تلك الكتيبات فأعادها إليّ مصوّباً أخطاء الصفحات العشر الأولى بأكثر من عشرين تصويباً حتى جعلني أخجل من نفسي وأهرب من غيمة ملؤها الفراغ إلى آبار تكتنز ماء الحياة.. لا أزال حتى اللحظة أحتفظ برسالة معالي الدكتور الخويطر رحمة الله عليه، وبكتابه الذي لم أقرأه في ذلك الوقت ولكنني قرأته مرّات حين اعتراني النضجُ.. كما أنني لا أزال أحتفظ بالتصويبات التي خطها قلم الأستاذ الأديب الصافي حفظه الله، وأعتبرها (الصندوق الأسود) لرحلتي الأولى في البحث عن الكتابة الصحيحة؛ وأرجو من الله أن أكون على قدر المسؤولية التي جعلت هذين الكبيرين يلتفتان إلى مراسلات من صغير متعثر ويكتبان له جوابات تحمل توجيهات أخذته إلى طموحه أخذاً يشبه المعجزات. فما أكبر الفرق بين من يمد لك يد الصواب حين يراك تتخبط في الخطأ، وبين من يتجاهلك حتى إذا رآك متصدراً مكانة أدبية أشار إليك ببنانه وهو يوشوش من يجاوره: أتعرفُ هذا كيف كان..؟!

ختاماً أقولُ، تلخيصاً وإخلاصاً: من المؤكد أن لرجل كالدكتور عبد العزيز الخويطر، وقد كان عميد الوزراء في بلادنا، من الأفضال على أجيال متتالية من الناس ما يفوق كلَّ ما ذكرتُ، غير أن فضله عليّ كان بكلمتين منه ربما تساوي (إحياء نفس). والشيء نفسه ينطبق على ما قدّمه لي الأستاذ علوي طه الصافي، وقد كان في قمة مجده الأدبيّ، فلم يستعل ولم يتجاهل بل أعطى من جانبه – ربما في دقيقتين - ما يجعلني مديناً له بالشكر والعرفان مدى الحياة. وأنا لم ألتق بالدكتور الخويطر شخصياً ولا بالأستاذ الصافي، ولم أذكر اسم أحدهما في أي مقالة قبل الآن. وما يحزّ في نفسي أنني لم أجرؤ على مراسلتهما بعد تلك المرحلة، ولم أهد لأيّ منهما أيَّ ديوان أو كتاب من كتبي التي أعتز بها تتوالى على مدى عشرين عاماً الماضية.. ربما هو الخجل قد منعني عن ذلك، أو الإشفاق على صورتي التي صنعتها وارتضيتُ بها من مقارنتها بصورة كنتها وتبرّأتُ منها(!). ولستُ أملك الآن إلا أن أحمد الله أنني تمكنتُ في الوقت الذي أحسبه مناسباً أن أترحّم على الخويطر وهو ينتقل من مناصب الدنيا إلى الدار الآخرة، وأتذكّر الصافي وهو يتوارى منذ زمن عن المشهد الثقافيّ العائم متعمقاً في الذاكرة.

- الرياض ffnff69@hotmail.com