تنسب فكرة تأسيس مقياس للتفكير السليم إلى الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو، الذي كان تلميذاً لأفلاطون ونقيضاً له فلسفياً؛ فقد كان أفلاطون مثالياً وطوباوياً، أي خيالياً في مقاربته للظواهر، بينما كان أرسطو مادياً، ويستمد أفكاره من المعطيات العلمية الضئيلة المتوافرة في ذلك الوقت، أي واقعياً في توجهه الفكري.
نسب المنطق إلى أرسطو ليس لأنه أول من نادى به، بل لأنه أول من وضع قواعد للتفكير السليم مستمدة من الواقع، أي أنه أسس لعلم جديد لم يكن موجوداً قبله، هو علم المنطق.
مقولة التفكير السليم أو الصحيح نشأت قبل التاريخ المكتوب، أي منذ الانتقال من البربرية إلى الحضارة، منذ إنشاء أول مجتمع مدني (السومرية هي أقدم حضارة مكتشفة حتى الآن 13-11 ألف سنة ق.م)، تتوزع فيه أدوار اجتماعية مقسمة إلى إنتاجية وإدارية ومساندة وخدماتية وغيرها، أي أن التفكير السليم المتناغم مع الحاجات الضرورية للتطور الاجتماعي المدني، الذي يميز الإنسان عن الحيوان، كان مطلوباً للبناء وزيادة الإنتاجية والازدهار؛ ولذلك انبثقت فكرة البحث عن الخلود للحفاظ على هذا المنجز، واكتشف الإنسان أن خلوده يكمن في عمله (انظر ملحمة جلجامش).
من هذا التحول العميق الذي يخص استكمال إنسانية الإنسان انبثق مفهوم الالتزام الاجتماعي (أخلاق)، وضرورة أداء الواجب (قانون أو عرف)، والحصول على حصة من الإنتاج (حقوق)، وتوثيق تراكم الإنجازات (تاريخ)، وتثبيت التوثيق (كتابة)، وكل ما يتعلق بالسيطرة على الطبيعة والمجتمع (تفكير) الذي انقسم من خلال التجربة إلى علمي وفني وإبداعي وخلاق، وما إلى ذلك (لغة) التي سلكت بدورها مسارات مختلفة بسبب اختلاف التجمعات البشرية تاريخياً وجغرافياً (لغات) ومنظومات فكرية مختلفة (عقائد).
المفاهيم كلها انبثقت من التجربة الإنسانية في الطبيعة والمجتمع؛ وبالتالي عندما نقارب مفهوم عميق كالمنطق لا بد من تناول منشئه وتاريخيته ووظيفته في عصرنا الحالي؛ فهو ليس ترفاً فكرياً نشأ في رأس شاعر، إنما هو تجربة اجتماعية مستمرة وغير قابلة للتوقف حتى في المستقبل.
لو تناولنا تجربة اجتماعية كالكتابة مثلاً التي فتحت آفاقاً عظيمة في تاريخ الحضارة البشرية، فهي نشأت عندما بلغ تراكم التجربة مستوى لم تعد الذاكرة الجمعية قادرة على استيعابه، إضافة إلى أن الذاكرة، حتى لو استوعبت، تبقى غير قادرة على الاحتفاظ بالمعلومة كما هي، إنما تسقط عليها تجربتها الخاصة. فمعروفة قصة المدرس الذي همس لأول تلميذ في الفصل بجملة وطلب تدويرها همساً بين التلاميذ فوصلت من آخر تلميذ إلى المدرس ذاته جملة أخرى لا تمت بصلة للأولى.
بالرغم من أن الكتابة هي أول أداة متينة للاحتفاظ بتراكم التجربة إلا أن من يدون له (تفكير) نابع من (تجربة)، وله سلوك (صادق أو كاذب)، وله إبداع (مبالغة أو تصغير)، وله تاريخ وجغرافيا وبيئة.. كل ذلك يؤثر مباشرة بالمدونات؛ ولذلك أكد ابن خلدون أن قراءة التاريخ يجب أن تستند إلى قواعد وأسس بذلك للتاريخ كعلم، وليس سرد وقائع، سواء كان ذلك شعراً أو نثراً.
الفلاسفة القدماء لم يهتموا بالفلسفة وحسب، بل كانوا شعراء وفنانين وعلماء رياضيات وفلك وفيزياء وطب وغيرها، حتى لتحسبنهم جامعات متنقلة، وكانت الفلسفة في زمنهم ذات شأن، توجه العلوم وتتأثر بها. أما اليوم فقد جعلوا منها مسخاً أقرب للجنون؛ وذلك لأن موضوعها هو العدالة التي لم تتحقق حتى الآن، وأقل ما يقال عنك عندما تتحدث بها أنك تتفلسف، بمعنى أن كلامك ليس ذا جدوى، أي أنه سخيف.
إذلال الفلسفة كان مقصوداً منذ القدم؛ لأنها تكشف الظلم وتفضح أسرار الصراع الاجتماعي، ولأنها أساس العلوم الإنسانية، تشوه تلك العلوم في أرقى الجامعات في العالم اليوم من أجل طمس الحقيقة.
اكتشف الأقدمون أن التفكير يجب أن يكون مستنداً إلى مقاييس، ووضعوا ما كان لديهم من قيم روحية خدمة لذلك، فسقراط مثلاً (469-399ق.م) نادى بالالتزام (بالأخلاق) في التفكير (المنطق الروحاني)، وقد قصد بذلك ليس التفكير وحسب، إنما السلوك المترتب على ذلك، أي الرحمة بالعبيد (القوة الإنتاجية الرئيسية في ذلك الوقت)، ونبذ الحروب الهادفة إلى الاستيلاء على المزيد من الأراضي والعبيد دون أي اعتبار للدم المدفوع ثمناً لذلك، واتهم كل من حوله بالجهل حتى نفسه.
يقول سقراط بعد أن وصفه حكماء عصره بأنه الأكثر حكمة: أنا الأكثر حكمة؛ لأنني الوحيد الذي أدرك جهله. لقد ألقت السلطات به في السجن، وحكم عليه بالإعدام لأنه وصف ظلم العبيد والحروب المصلحية بأنها منافية (للمنطق)، وأنه - أي المنطق - هو الالتزام (بالأخلاق) وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، وأسس بذلك الأرضية الفكرية لثورات العبيد التي تنامت تدريجياً لتتوج بثورة سبارتاكوس (71-109ق.م).
الجدير بالذكر أن والد سقراط كان رساماً ونحاتاً، وله أعمال موضوعة في الأكروبو لوس في أثينا حتى الآن، فهو إذن من الطبقة الوسطى التي كانت تقوم بدور الخادم للطبقة الأرستقراطية، وتقوم بترويج فكر (الفضيلة)، أي أن العبد يقبل (بقدره)، ويستمر في خدمة سيده دون احتجاج، ويكون السيد في المقابل رحيماً بعبده، ويتفضل عليه بإعطائه ما يبقيه على قيد الحياة. أما أم سقراط فقد كانت قابلة، أي من الطبقة الوسطى ذاتها التي ينتمي لها زوجها، ولم يكن لديهما أراض ولا عبيد، وكانت النظرة السائدة لطبقتهم أنهم شحاذون، يعيشون على هبات الأرستقراطيين.
بالرغم من أن سقراط كان شاعراً وفناناً وفيلسوفاً، ووُصف بحكيم عصره، إلا أنه رفض المجتمع كله حتى نفسه، ورفض تدوين مقولاته أو شعره، فمن قام بذلك هو تلاميذه، خاصة أفلاطون. لقد رفض سقراط أيضاً اقتراح معاصريه بتجرع السم لقتل نفسه هروباً من عذاب السجن والإعدام، لكنه وافق بعد إلحاحهم وانتحر.
هذا النوع من الارتباط بالواقع لم يستطع أفلاطون (347-427 ق.م)، وهو التلميذ النجيب لسقراط، الاستمرار به فهرب من مواجهة الواقع المادي إلى الأمنية، وأنشأ مدينة فاضلة في خياله، حيث لا يوجد سيد ولا عبد ولا وسيط بينهما، والجميع يعمل، وكل فرد يأخذ من الإنتاج ما يكفيه دون رقيب إلا أخلاقه. هذا الحل الطوباوي (الخيالي) لم يلجأ له أفلاطون لأنه جبان؛ فقد هجر أثينا، وجال متنقلاً بين المدن؛ ليقنع هذا الأمير أو ذاك بمدينته الفاضلة، وجمع حوله تلامذة مختلفين عقائدياً لا يجمعهم سوى رغبتهم في إثراء وتنظيم المعارف الإنسانية واستنباط قواعد نظرية وعملية راسخة، لكنه اكتشف من خلال تجربة سقراط المريرة وإخفاقاته هو المتكررة أن المعضلة الاستبدادية لا تحل أخلاقياً، ولم يستطع الاهتداء للبديل؛ فأنهى حياته وهو محاطٌ بتلاميذه.
لقد شهد أرسطو (322-384 ق.م) أحد تلاميذ أفلاطون تجارب هذا الأخير وتنقله من مدينة إلى أخرى ليؤسس مجتمعاً خالياً من الظلم والفشل الذريع الذي رافق نشاطه ذاك، لكنه تشرب من مبدئية أفلاطون في البحث عن حل للمعضلة الاستبدادية، وكان معجباً بأستاذه أيما إعجاب؛ ولذلك تبنى فكرة أن هدف الفلسفة هو التغيير وليس التأمل فقط، وأن الظواهر مرتبطة بشيء ما كلي، وهذا الكلي ليس أخلاقياً كما ذهب أفلاطون إنما مادي وواقعي، فسخر جهوده الفكرية والشعرية لتطوير المعرفة.
يعتبر شعر أرسطو أول أنواع الشعر الدرامي في التاريخ، وهو مؤسس علم الأخلاق، ومهد الطريق لعلم الجمال. كان والده طبيباً مقرباً من البلاط المقدوني، وله تأثير واضح عليه؛ إذ اكتسب أرسطو من خلال تشريح ودراسة الكائنات الحية القدرة على دقة الملاحظة والتحليل، وجاءت أعماله شاملة، وتحيط بجميع الجوانب الحياتية؛ فهو مؤسس علم البيولوجي (الأحياء) باعتراف دارون نفسه، وطور العلوم الأخرى في عصره، وقد كان معلماً للإسكندر المقدوني الذي حاول (عولمة الفضيلة)؛ ولذلك وضع أرسطو قواعد للتفكير (علم المنطق)؛ كي لا يكون التفكير تأملياً وخيالياً بعيداً عن الواقع المعاش، ويساهم بفعالية في إثراء المعرفة.