للشاعر اللبناني محمد شمس الدين قصيدة بعنوان: قصيدة لا، وقد حشد فيها ما شاء له التمنع من لاءات مدلَّلة: (هذا العصفور الأزرق.. فوق الغصن الأخضر.. في الجهة البيضاء من الشجرة.. لا يعجبني... سِرب حمامٍ يمرح في ساحة روما.. لا يعجبني.. ثلج الربّ الأبيض.. لا يعجبني.. والدانوب الأزرق.. لا يعجبني)، وحين تنتهي من القصيدة قد تتساءل: هل هذه الأشياء المنفية في ظاهر اللغة؛ هي كذلك منفية في أعماق الروح؟ أو أن هذا النفي الظاهري والتغييب الادعائي هو أدلّ دليل على الاستحضار الدائم والتعلق الطفولي المستمر؟
بمثل هذا الموقف المفتوح على شتى الاحتمالات يمكن أن نتناول ظاهرة النفي عند الشاعر عبدالله الزيد، وابتداءً أقول: إني لا أعرف شاعراً سعودياً مولَعاً بأدوات النفي مثله، فشعره يستوحي «ما لم يقله بكاء التداعي» ، وهو «مورِقٌ بالذي لا يكون» ؛ لأنه «لم يشأْ أن يجيء إلى قيظهم ريِّقٌ.. لم يشأْ»، أمّا أغانيه فإنها «تغيب.. تبيد.. تذوب.. ولا نقلة للرثاء تُفيق.. ولا نبرة من بقايا الشغفْ «، وفي قصيدة الشاعر: ترتيلةٌ أولى لمنتبَذي مقطع لا أجد مثيلاً له في دقة الوصف للطبيعة النفسية للشاعر المحتفية دائماً ـ بسبب مثاليتها المفرِطة ـ بالغائب المنفي، وفي هذا المقطع يقول: «وكم أنا منفتِلٌ بالذي لا يجيءُ.. ومنفعلٌ بالذي قد يموت.. ومنكفئٌ بالذي لا أُطيق.. وفي نَفَسي نَفَسٌ لا يُفيق».
النفي إذن عند عبدالله الزيد هو أسلوب آخر للرفض: رفض الشائع المثبَت؛ توقاً إلى النادر المنفيّ، أو هو نوع من التمرد على طمأنينة الاعتياد؛ وصولاً إلى قلق الغربة، ومعاناة الانفراد، وهي المعاناة التي لا يُخفي ابتهاجه بما تولِّده فيه من حزن وانكسار: (أحتفي بنشوء الأسف) ! أهو نوع من جلد الذات سعياً للإحساس بالتميز؟
الواقع أن بواعث القلق والمعاناة عند الزيد أعمق من هذا بكثير، فهناك أولاً لذع موجع من ندم مسترسِل ما يزال يتسرب إلى القارئ في كلّ ناصية من دواوينه العشرة؛ (انظر مثلاً قصائده: مقاطع من تداخلات وجهي ووجهك، التداعي على رداء المستحيل، أحتسيك أيها الصدأ، تالله لن أبرحها، أبكي من يعرفه حزني).
وهناك ثانياً طبيعة نفسية شديدة الحساسية للمتغيِّرات في محيطها، ولعل أشدّ هذه المتغيِّرات تأثيراً في نفسه هو: الموت؛ ولا سيما موت الأحباب، ومن هنا تشيع قصائد الرثاء في دواوينه بقدْر لافت للنظر، ويقترب في هذه السمة من الشاعر غازي القصيبي رحمه الله؛ مع التباين الواضح بين الشاعرين في النهج الشعري، ويكفي لرصد هذه السمة عند الزيد أن تتأمل عناوين قصائده؛ لتقف على مدى انتشار القصائد البكائية الشاكية، والمتوجِّعة من الألم ولوعة الفقدان، ومنها: (بكيتُكِ نُوَّارةَ الفأل، افتتاحيات أُولى للوجع، الإيقاع الآخر لفاتحة الشكوى، صياغة قاتلة للفقدان، جدارية لدمعٍ ببالِ الأسى، إني على ما أحتسي صبّارُ، أبكي من يعرفه حزني).
وقد يكون لبعض الأحداث الحزينة التي ألمّت بالشاعر أثر لا يُنكَر في شيوع هذه القصائد البكائية؛ غير أن الأثر الأكبر - أسلوبياً - إنما يعود إلى طريقة التعبير الميّالة إلى التصوير الدرامي الحادّ، والتي تكشف عن نفس شديدة الحساسية للمتغيرات من حولها، شديدة الرغبة في البوح ذي النبرة العالية. ويبدو أن الروح الجِدّية التي فُطِر عليها الشاعر تجعل استجابته للأشواق الروحية العليا، وللمشاعر الإنسانية العامة أعمق بكثير من استجابته لمشاعر الاستهواء الخاصة التي يتداخل فيها الحس والمعنى، ومن هنا تشيع قصائد الصداقة لديه، فيما تندر عنده القصائد الغزلية، أو الخطرات والانفعالات المرتبطة بالمرأة إجمالاً.
وهناك ثالثاً إحساس عميق بالغربة عند الشاعر تجاه الوسط المحيط، وبناءً على هذا الباعث يمكن تفسير ظاهرة النفي عنده بأنها في حقيقتها نفيٌ للذات، وليس للأشياء التي يقع عليها النفي ظاهرياً؛ ذلك لأن الامتداد المستمر لقائمة المنفيات يؤدي تدريجياً إلى انفصال الذات عن الوسط المحيط، وهكذا يصبح النافي منفياً في المحصّلة النهائية؛ إمّا على المستوى الحسي، أو على المستوى المعنوي الإبداعي، ولم يكن الشاعر بعيداً عن هذا الملمح حين قال في تقديم إحدى قصائده: «إلى كلّ من أحسّ بمجانيته، وغربته بين أهله وذويه، وأطبقت الكآبة على منابت إبداعه».
وبالإضافة إلى شيوع ظاهرة النفي؛ ثمة ثلاث ظواهر أسلوبية أُخرى في شعر عبدالله الزيد تعزِّز هذا المنحى الاغترابي لديه، وهي: انتشار ضمير المتكلم، وكثرة استعمال أسلوبي: الأمر والنهي، والتردد اللافت للأسماء الموصولة عنده، فيما يتعلق بضمير المتكلم؛ فإن استعماله بكثرة في التعبير الشعري أمر متوقّع؛ لأن الشعر في النهاية تعبير عن الذات؛ غير أن الشعراء المعاصرين أضحوا ميّالين إلى التقليل من ا لتعبير المباشر عن النفس؛ من خلال تجريد انفعالاتهم الذاتية في موضوع شعري خارجي، ومن خلال الوصف المحايد له يُوصلون رسائلهم الذاتية غير المباشرة، ولعلّ هذا ما يفسِّر تصدّر ضمير الغائب - ظاهراً ومستتراً - في النتاج الشعري عند كثير من الشعراء المعاصرين، وهو الضمير المرتبط غالباً بالتأمل المتأنّي في الأشياء والأحياء، وهذا سرّ شيوعه في لغة الرواية أيضاً .
أمّا عبدالله الزيد فيكفي أن تنظر في عناوين قصائده - فضلاً عن متونها - لتدرك مدى شيوع التعبير الذاتي المباشر؛ عبر ضمير المتكلم: (بكيتُكِ نُوّارةَ الفأل، أحتسيك أيها الصدأ، أجيء من ضائقة الركون.. أقول للتداخلات، شيءٌ تورّد في دمي، أستهلّ بناري صدى ناركم، أمدّ الدمع من عيني لبدء الريح، إني على ما أحتسي صبّارُ)، كما خصّص الشاعر قصيدتين مستقلتين للتعبير الذاتي تنتهي كلّ أبياتهما بضمير المتكلم، وهما قصيدتا: (المسافة مسألتي، ومعزوفة الوطن على ياء المتكلم)، إن إصرار الزيد على الإفصاح المدوِّي عن الذات هو في أحد وجوهه الدلالية: تأكيدٌ للتفرد والتمايز؛ في مقابل الاندماج والانصهار .
وأما أسلوبا: الأمر والنهي؛ فإن أغرب ما يُلحَظ فيهما أن الزيد لا يوجِّههما في الغالب إلى شخص آخر سواه، بل إلى نفسه.. إلى ذاته المغترِبة في وسطها الموحِش، المحتاجة دائماً إلى هذه المتابعة والمؤانسة، والتحفيز على الوقوف والتصبر: (فلا تصطخبْ.. ولا تنتحِبْ... ألا لا تغبْ.. عن الضوء والضدّ والرمح إنْ حاصرتْكَ النصُبْ... لا تقُلْ.. لا تقُلْ.. فالسماء مسجّرةٌ بالجحيم... فترجّلْ إذا ملّ منك الرجاءُ مساءً.. وخيِّمْ على مشهدٍ للشقاءِ.. وداخِلْ مجيئك... فقمْ واغتسلْ باحتدامك.. مثِّلْ بما قد تبقّى من النبل فيك... غادرِ الشأن.. لُحْ للنهايات قبل نهوض النذير.. تبتّلْ بروح القناديل) .
ويبقى تردد الأسماء الموصولة، وهو واضح على الأخص في عناوينه: (إيقاعٌ لما تبقّى من سيِّد النجوى، ما لم يقلْه بكاء التداعي، ما قاله البدء قبلي، ما تبقّى من النداء المسجّى، مورِقٌ بالذي لايكون، مما جرى في تفاصيل الشتات)، وما يصنعه الاسم الموصول هو: أنه يُحيل الدلالة إلى صلته؛ أي أنه يُرجئها إلى الكلمات الآتية بعده، وفي هذا تطويل مقصود لوصول الدلالة، وكأن المتكلم ضنينٌ بهذه الدلالة على غير أهلها؛ ممن لا يجانسه في الرؤية والتفكير؛ كما خشي أبو حامد الغزالي ذات مرة.
على أن الحديث السابق عن الاغتراب عند عبدالله الزيد يستدعي قدْراً من الاحتراس في فهمه، فاغترابه ليس مطلقاً، وكثير من قصائده تنمّ عن انسجام طيِّع مع قِيَم المجتمع الأصيلة، وللشاعر مثلاً قصيدة مدمدِمة عن متردٍّ في حمأة الإدمان: (يا ميّت الأحياء: هذي مسوّدة الرثاء)، كما كرّر الإشارة إلى صلاة الفجر في عدد من قصائده: «وجه صالحْ.. مؤنِسٌ مثل صلاة الفجر.. هتّانٌ سخي... وأشكرهُ وأصلِّي صلاة الفجرْ... جئتُ موفورَ الهناءْ.. من صلاة الفجر.. موفورَ الرجاءْ).
وهذا التكرار اللافت لأداء شعيرة تعبدية أمام القرَّاء يستدعي التوقف والمساءلة، فهل هي رسالة من الشاعر؟.. هل المقصود أن الاختلاف في التفاصيل لا يعني التخلي عن الثوابت، وأن الاغتراب الجزئي لا يعني الانفصال الكلي؟.. وأن غربة الشاعر هي في أساسها غربة إبداعية يجذِّرها التلقي المسطّح للشعر المكتنِز شجناً ومعاناة؟..
وبعد؛ فكم كان عبدالله الزيد معبِّراً بصدق عن نفسه، وعن شعره معاً حين عنون إحدى قصائده بجملة واحدة، وهي: (المسافة مسألتي)، وكم هي طويلة تلك المسافة التي تفصل بين النافي وماينفيه.. بين المغترِب والوسط الذي يحتويه.