للشعر عالمه الخاص، وللقصيدة نبرتها الحميمية الناغلة في الوجدان، لا سيما لحظة أن يعزف الشاعر أشجان الولع بعالم تفاصيله بعيدة، وبأحلام محلقة هناك في فضاء رحب، وشَسْعَةُ بِيدٍ ترمح فيها خيول الظنون، ووجع الآهة من ألم يسكن الوجدان، فلا يستطيع الشعر تفتيت هذه الهالة المترامية على الشعور والوجدان المثقل منذ أمد بلواعج الماضي وهموم الحاضر ومجهول الآتي.. حتى وإن قِيل عنه المستقبل.
ديوان الشاعر «هادي رسول» وسمه بعنوان «نبوءة الطين».. فهو عنوان جدلي مثير لمكنون التأمل في حياة الإنسان منذ الخليقة وحتى أيامنا هذه، حيث يستهل الشاعر قصائد ديوانه في السؤال العميق.. كيف الهروب؟ وأين المآل؟ بشذرات استفهام يوحي بدهشة ما قبل الإجابة التي قد لا تلوي على شيء في زمن اللا شيء وفي تفاصيل جامدة ومتشابهة.
فالشاعر «رسول» في قصيدته «عرشٌ لضوء القمر» جاء متأثراً بعنوان الديوان الذي يتشبث بوجد الخليقة من طين ووحياة وحب وأسئلة تتراسل في العقل والوجدان، لتثير هذه القصيدة بحق شهية أو ذائقة القارئ لتتبع هذا الخطاب الوجداني الذي يمازج بين الأسئلة والرمل والطين، وماء يقيم صلب الحياة على نحو قصيدته الثانية «نبوءة الطين غفلة الرمل» حينما يعيد رسم حالة الامتزاج بين رمل وماء، ليُكَوِّن طيناً تتخلق منه جراح وآهات وشكوك وشهقة ونبض وكل مقومات إنسان يبحث عن ذاته أو خلاصه من لواعج ومنغصات كثيرة.
لهذا الديوان لغة جميلة وابتكار لفضي عذب، وانتقاء لمفرد خطاب الذات التي تريد أن تفصح عن مكنونها وحالتها بأسلوب شعري شيق يمازج فيه «هادي رسول» بين فكرة وأخرى، ليصل إلى الهدف المنشود نحو ذائقة تتلمس جمال هذا التراسل الوجداني الذي يفتش عن شجن عذب وشعور إنساني يَسْتَكْنِهُ حال العالم من حوله.. وعلى أي نحو يعيش، وبأي شاكلة سيفنى.. غرق بماء، أم موت بعطش.. كلاهما نهايات مرعبة تسكن دهشة الشاعر وتثير خطابه الشعري المفعم بجدل عجاف السنين:
«غفلة الرمل
لم تخاتله درباً
صار سرباً
كهيئة الطير حياَّ
*****
يصنع الفلك
من حطام سؤال
خلف بحر
من الظنون شجياَّ»
فالفكرة في هذا الديوان واضحة المعالم، وأسلوب الشاعر في عرضها غير متكلف، وتشي القصائد تباعاً بان كل نص له فكرته ووجوده المهم في هذا الانتظام الشعري المتقن الذي يمازج بحسن بلاغة بين جملة وأخرى، فتارة يستدعي التاريخ ومقولات العرب على نحو قصيدة «دروب إلى مدينتي الضائعة» وأخرى يعود إلى عالمه الخاص ففي هذا التناول بين الخاص والعام تخرج فلسفة الشاعر حينما يجد أن الشعر حالة وعي يمكن أن تجيب على أسئلة كبيرة:
«ما كبرت الآن
لكن كبرت في جراحي
سبقتني ألف عامٍ
وأنا لو مت
لن يفنى معي الجرحُ
فجرحي يحفر الدهر
على ظل تجاعيد الكبار»
يعيش الشاعر تفاصيل يومه ويستشرف مآلات الحياة بين يأس وأمل، فتارة يصيخ السمع ـ كما أسلفنا ـ إلى خطاب الإنسان في أعماق التاريخ، وأخرى يستشعر حالتنا الراهنة وما تحمله من تناقضات وتشعبات وعبث ومجانية وخواء.. وما يفتأ الشاعر إلا ويرنو إلى ذات الأفق البعيد حينما يصوره بالمستقبل أو المجهول الآتي.
تميل قصائد هذا الديوان إلى عدم الإطناب أو الشرح المستفيض إنما هي رسائل معبأة بأسلوب حكيم وبلغة شعرية راشدة تستلهم منهجها الشعري من عرض تفاصيل المفردة التي تبني للشعرية مجدها دون إطالة أو إسهاب حتى تكون كل قصيدة رسالة حاذقة تصل إلى مبتغاها بشكل جميل، وبأسلوب معبر يستعيد تفاصيل الإنسان المعبأ بجمال الحياة وبساطة العيش وقراءة الأشياء من زاوية عميقة تستطلع تفاصيل الأشياء، وتكاشف الزمن.. علها تسجل حضورا نافذا ومفيداً.
يُضَمِّنُ الشاعر بعض قصائده حكايات وإحالات تاريخية مهمة من أجل أن تصل الفكرة أو سبب القصيدة إلى هدفها، لتكتمل الفكرة أو المعنى في الذائقة والذاكرة على نحو ممتع، فالرؤية الوصفية هنا لا تغادر منطق الأشياء أو حدودها إذ ترسم معالم الخطاب الوجداني الذي ينهل منه الشاعر، ويصوغ من خلاله قصائده الجميلة.. تلك التي تتأمل من خلالها الحياة، لتصل بين مفارقها وأطرافها وتباينها بين البحر والبر والرمل والطين والحياة والموت والرجل والأنثى وما إلى ذلك من متقابلات يوظفها الشاعر بشكل ناجز يحقق من خلالها معادلة المتعة والفائدة.
** ** **
إشارة:
* نبوءة الطين (ديوان شعري)
* هادي رسول
* الدار العربية للعلوم ناشرون، وأطياف ـ 2013م
* يقع الديوان في نحو (128صفحة) من القطع المتوسط
* لوحة الغلاف: بشار الشواف، والتصميم: نسيم العبد الجبار.