Saturday 06/12/2014 Issue 454 السبت 14 ,صفر 1436 العدد
06/12/2014

بين الجاحظ ورولان بارت

عمرو بن بحر الحدقي أو الجاحظ (159 - 255هـ)، عاش في درج صباه فقيرًا ويتيمًا، مولعًا بالقراءة، حيث يبيع السمك والخبز نهارًا، ويستأجر محلات الوراقين ليلاً، كان على شاكلة شيخه النظّام، محب للمنطق، ويرى أن الحقيقة مطلقة، قدم العقل على النقل، وكتب في الشيء وضده، فذم النبيذ ثم مدحه، وكذا الوراقين والكتاب، وقدّم علي بن أبي طالب على غيره ثم عاد وأخّره، أي أنه مضطرب ومتناقض، وله مقدرة عجيبة في أن يأتي على الشيء تناولاً، فلا يدع قولاً لقائل من بعده.

لقد كره أهل عصره المنطق، فقالوا: من تمنطق فقد تزندق. لذلك كان من شيوخ المعتزلة، وله الجاحظية تنسب، حيث يولي علم الكلام أهمية كبيرة، ولعل قصة أصابته بالفالج من تلك الأكلة التي تناولها بالجمع بين المضيرة والسمك، ونصح ابن ماسويه له؛ ليبرهن على ولعه في أن يتغيا المنطق من أوسع أبوابه.

له كتاب في المحاسن والأضداد، والمظنون أن حبه للمنطق حداه إلى أن يستمرئ الشيء وضده، كما فعل حين انتصر للونه المائل إلى السواد حين ألف كتابه «فضل السودان على البيضان». وهكذا يسير في سائر كتبه من حيث التنافر تارة، ومزج الجد بالهزل تارة أخرى، مما حيّر القارئ له، وأعسر استجلاء ما يرمي إليه، حيث لا يقف على منهاج واضح، إنه كما حاطب ليل.

في كتابه البيان والتبيين أكثر من العكوف على علم الدلالة، وراح يتحدث في بحر «السيميائية»، العلامات أو الإشارات، أي البحث عن المعنى والدلالة، واستخلاص البنية المولدة للنصوص منطقيًّا ودلاليًّا. ولكن بعبارات مقتضبة، كما فعل حين تجنب النطق بلفظة المجاز، بينما هو غارق في المجاز يبحث فيه. ولعل المطلع على كتاب» الرؤية البيانية عند الجاحظ» لإدريس بلمليح، يلحظ هذا بجلاء.

كانت وفاته حادثة، حيث وقع عليه رف مليء بالكتب الضخمة حجمًا، فمات من فورة مدفونًا بالكتب التي كان منصرفًا إليها محبًا لها، ومن الحب ما قتل.

أما رولان بارت (1915-1980م)، فهو فرنسي، كان مرض الرئة قد أخّره عن تلقي العلم، فلم يلبث كثيرًا أن شفي حتى ترقى في سلم التعلّم سريعًا، بدأ الكتابة في سن الأربعين، درّس في تركيا ومصر والمغرب، وله شطحات وسجالات حيّرت طلابه ومريديه من أن يقفوا على منهج واضح له، وقد عجز غير ما واحد من الإمساك بتصنيف له من حيث خصوصية مباحثه التي يكتب فيها، حيث اشتغل بالأدب وبالتأريخ والموضة والصورة والمجتمع والتشكيل والمسرح، فهو كمثل ميشيل فوكو الذي لا يصنف ضمن تخصص معين، وهذا الأخير هو صاحب مقولة موت الإِنسان. في المحاضرة التي ألقاها عام 1968م بعنوان» ما المؤلف؟». ولئن كان رولان قد اشتهر بمتابعته للفيلسوف الألماني نيتشه في القول بموت الإله ومن جاء بعده، حيث قال رولان بموت المؤلف؛ إلا أنه سرعان ما عاد وصرف النظر عن هذا الموت في حديثه عن سيميولوجيا القراءة، إِذْ إنه نادى بأهمية المؤلف، وأنه عنصر فاعل في تحليل النص، فأبدلها بعودة المؤلف.

ومن المعلوم أن إقصاء المؤلف قد بدأ من عند الشكلانيين الروس في أوائل القرن العشرين، حين تم تركيزهم على البنية، ثم ما كان من السويسري فريناند دي سوسير، ثم الفرنسي مالارميه، وقد تابع هذا الأخير بول فاليري، وقد أكد رولان على أسبقية الذين قد ذكرتهم آنفًا، ولست أدري علة نسبة هذه المقولة إلى رولان دون سواه من النقاد!! وأكبر الظن أن الرجل حين صرح بتلك المقولة عنوانًا لمقالة له مستلبة من كتابه» الصورة - الموسيقى - النص»؛ نشرت عام 1967م، حسب القارئ في الأدب أنه ابن بجدتها دون سواه!!

على أن من النقدة الغربيين من رفض التسليم لرولان في مقالته تلك، ومنهم لوسيان غولدمان، حيث رأى أن انتماء البنيوية السياسي والفكري الماركسي يوقع الأدب في ورطة، فغولدمان يرى أن من الواجب ربط البنية النصية الداخلية بدينامية (حركة) التأريخ الاجتماعي والسياق الثقافي.

والغريب أن يهوّن من تلك المقولة الدكتور عبد الله الغذامي في تقديمه لكتاب رولان بارت» نقد وحقيقة»، حيث ذكر أن موت المؤلف لا يعني إلغاء المؤلف نهائيًّا، بقدر ما هي عملية تحرير النص من سلطة المؤلف، وربطه بسلطة القارئ، أي عقد مزاوجة بين النص نفسه والقارئ، ومن ثم استدعاء المؤلف ليبارك هذه العلاقة.

والغذامي يريد أن يقول: بإزاحة المؤلف مؤقتًا ثم إعادته إلى مكانه. وما لفظة الموت إلا مبالغة.

وهو بهذا ينسف ما عناه الشكلانيون، ودي سوسير، ونيتشه، ومالارميه، وبول فاليري وغيرهم. فليس المعني هنا رولان وحده، وإنما بمن سبقوه كذلك، باعتراف رولان نفسه، وحتى لو لم يعترف، فالمطلع على كتب أولئك يعلم أن تلك المقولة تراكمية دينامية، وأن حظ رولان الصياغة اللفظية فحسب!! يزاد على ذلك أن هذا التهوين من الغذامي هو مسبوق إليه، فقد أشار إلى ذلك - قبل الجميع - عبد القاهر الجرجاني حين تحدث عن انتقال المعنى إلى معنى المعنى. أي من المعنى إلى الدلالة الضمنية. وهو ما يعرف ب عصر القارئ والقارئ المنتج. أي القارئ الكاتب. بيد أن الجرجاني تناول الجملة والجملتين في نظرية النظم، ولم يتوسع به كما اليوم، كما الجاحظ والغزالي حين تحدثا عن الشك اقتضابًا، فكان أن جاء ديكارت وبسطه بسطًا حتى نسب مذهب الشك إليه.

على أن رولان كان يدون اسمه على كتبه، ويتفاوض والناشرين في حقوقه الفكرية والطباعية، مشددًا على ملكيته الأدبية، ولو أننا قلنا له: طبق ما ناديت به على نفسك، واجعل النص مشاعًا، لمط شفتيه، ونفخ أوداجه، وشمخ بأنفه أن ما نقوله ضرب من العبث، فالمارستان دار لنا بلا أدنى ريب!!

حين نترجم اسم رولان إلى العربية نخرج بأنه يعني الأرض المجيدة، أو الأرض المشهورة، وعلى نظرية كل له من اسمه نصيب؛ فإنه يبحث عن علم لم يوجد بعد، أو عن أرض لها قدسية دينية!!

لقد كتب رولان في كل شيء، إِذْ تحدث في موضة الأزياء من باب أنه لغة إشارية وعلامة تفيد الناقد، ومن يطلع على كتاب» نقد النقد» لتزفيتان تودوروف، يلحظ أن الكتاب قد اشتغل فيه صاحبه على تبيان فكر رولان بارت، فقد أوضح أن الرجل لا يهتدي إلى شيء إلا ويرحل عنه باحثًا عن شيء آخر، حيث لم يثبت على شيء، ولم يؤصل شيئًا يعتد به. ومما جاء فيه قوله:» يتبيّن أن بارت يغير موقفه، وأنه ما أن يصوغ رأيًا حتى يفقد الاهتمام به». ويقول عنه فيليب ثودي في كتابه» التقسيم المحافظ»:» إنه موهوب، ولكنه مفكر غريب الأطوار».

لقد كان موته حادثة كما الجاحظ، إِذْ عبر الطريق التي توصله إلى معهد التدريب في باريس دون أن ينظر إلى السيارات المارة، فكان أن دهسته شاحنة ضخمة تحت عجلاتها، فموته كان بسبب من جسم ثقيل قد وقع عليه، كما الكتب الثقيلة التي وقعت على الجاحظ!!

- الرياض Ahmad-27-@hotmail.com