Saturday 06/12/2014 Issue 454 السبت 14 ,صفر 1436 العدد
06/12/2014

أبحاث في الهوية (1)

(1)

عندما نتأمل في تراث العرب في عصر ما قبل الإسلام نجد غرض الفخر، والمنافرة من الأغراض التي امتلأت بها صفحات الشعر ومقاطع النثر. يستوي في ذلك الشاعر الشاب في أول عمره كطرفة بن العبد، والفارس الشاعر كعنترة الفوارس، أوالشاعر الصعلوك كالشنفري، وعروة بن الورد أوالشاعر الذي يفخر بقبيلته ويملأ سمع الناس بمفاخرها كعمرو بن كلثوم أوالسيد الجحجاح كهاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس.

لكن هذا الفخر بما يرونه مكارم الأخلاق لايتجاوز بناء المجد الفردي للفاخر بنفسه إلى أن يشكل وعيا قوميا بأهمية الجماعة أوميزتها على سواها من الأمم. فالشاعر يفخر بكرمه، وشجاعته، ونجدته، وحماسته، أوأنه يفسد الأموال على ملذاته, أو أنه سريع سابق يغدو قبل الطير، ويصاحب الذئب، والضبع ووحش الصحراء. وقد يفتخر بأنه يغض الطرف عن جارته إذا بدت له، أو أنه يهتك سترها ويسمو إليها سمو حباب الماء حالا على حال. وهي قيم تمثل في البيئة التي ينتمي إليها الشعراء قيما فردية تعزز من اعتداد الشاعر بنفسه في مقابل أقرانه من الفئة نفسها، ولا تتجه إلى القول بأن هذه الفئة من الناس الذين ينتمي إليهم الشاعر يتميزون عن غيرهم من الأمم، بهذه الصفات والتي تظهر لدى هذا الفاخر بجلاء ووضوح ويمثل نموذجا لأبنائها.

ولايختلف عن ذلك الفخر بالقبيلة؛ إذ النظرة إليها نظرة أيضا فردية تبحث فيما يميزها عن سواها من القبائل المناظرة، ويجعلها في مساق التفوق والغلبة عليها، وليس بما يبحث عما يجمع بينها، ويكون وعيا واحدا تقوم عليه هذه الجماعة أوهذه الفئات المتعددة التي تكون أمة واحدة. ومن هنا لا نستطيع أن نقول: إن هذا الفخر يصب في مصلحة الوعي القومي للجماعة «العرب»، ويثبت سعيهم نحو هذا التميز كما هو في مفهوم «الهوية».

صحيح أن العرب كانوا يتغنون بأشعارهم -كما في كتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين- عند أماكن تجمعاتهم التي قد تكون خارج الجزيرة العربية منذ وقت مبكر من التاريخ، وصحيح أن هناك مفاهيم ومصطلحات ظهرت في العصر الجاهلي تمثل الوعي بمفهوم النقاء والحرص على الأصل، فوجدنا مثلا مصطلح «الهجين» الذي يطلق على من جمع بين أكثر من عرق أو أصل، كما كانوا يحافظون على الأصول والأنساب، واختيار الأصهار، ولا يتوقف هذا على أنسابهم وحفظها بل أنساب الخيل، وأنساب الإبل أيضا. وهو ما يؤيد فكرة النقاء العربي والأصالة. بل يحرصون على النقاء اللغوي، والثقافي في عصر ما قبل الإسلام حين يبعثون أبناءهم إلى البادية لتصح أجسامهم بالهواء الطلق وبركوب الخيل، وتعلم الرمي، وعاداتهم، ولغاتهم أيضا وحكاية استرضاع النبي في بني سعد. لكن هذا الاستعمال لكلمة «الهجين» ظل في حدود الاستعمال اللغوي الذي يجمع بين أكثر من أصل كما أنه في حدود الإطار الحسي وليس المعنوي، إضافة إلى أنها تدل أيضا على الصفاء والخلوص لمعنى واحد، والكرم، ف»الهجان البيض وهو أحسن البياض وأعتقه في الإبل والرجال والنساء، ويقال خيار كل شيء هجانه» كما في اللسان. وعلى هذا فالكلمة لاتدل على معنى واحد وحسب، بل تدل على ضده أيضا؛ مما يعني أنها تستلب معنى أن يكون «الجمع بين أكثر من أصل» مفهوما اجتماعيا قائما على التمييز العنصري، وإنما هو وصف لغوي للدلالة على حالة معينة هي اختلاف الأعراق، دون أن تكون مجالا للانتقاص والوصم بالدونية وقلة المنزلة، إذ قد تكون دالة على الكرامة والأصالة والعتق الذي قد ينتج عن تداخل هذه الأعراق في بعض الأحيان، وهو مايحصر هذه الكلمة في سياقها اللغوي.

كما أن هذا النقاء لايتجه -كما قلنا من قبل- لتأسيس فكرة أن هذه الصفات مكونات شخصية متكاملة تميزها عن الأمم الأخرى، وأن النقاء أو الحرص على هذه الصفات ليحملها اللاحق عن السابق، ويورثها أبناءه فلا تضيع تلك الصفات أو الشخصية التي تكونها، وأنما باعتبار أن هذه الأخلاق والأداب والمعارف هي الوسيلة التي يتأدب بها الفتى من القوم ويحذقها بوصفها هي الآداب الراقية فلا يتخلف عن لداته وأترابه ويكون أقل منهم، ولو وجدت آداب أخرى لما تأخروا عن الإلمام بها ومعرفتها.

والبحث عن السبب في عدم وجود هذا الوعي ربما مرده إلى عدم الخوف من الذوبان في الأمم الأخرى، فهم يعيشون في الجزيرة العربية وعلى أطرافها مستقلون لايخالطهم أحد، يملكون أرضهم وسماءهم ولغتهم، وهم أيضا يتبعون في كياناتهم السياسية في الغالب أمما أخرى، كالفرس والروم في الشمال، أو الفرس والأحباش في الجنوب. وهو ما يؤكد عدم وجود الشعور القومي المتكامل في تلك الحقبة. وقد جاءت بعض المرويات التي تشير إلى هذا المعنى ما ذكر أن جعفرا بن أبي طالب قاله في حضرة النجاشي:»كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف».

هذه الصورة التي يقدمها جعفر صورة متدنية جدا، ولاتدل على احترام الذات وتقديرها، ولا إلى سمو النظرة إليها، وهو ما يعني –من خلال هذا القول- عدم إمكانية الوعي بما يميز الذات العربية القديمة ويجعلها تقارن نفسها بالأمم الأخرى أو أنها أمة مستقلة لها مكونتها الخاصة التي تجمع بينها ومن خلالها يسمون العرب.

ومثل ذلك ما نسب أيضا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «كنا قوما أذلاء فأعزنا الله بالإسلام». وهذه الرؤية التي تبدو في هذه المرويات لا تتصل بالفرد العربي، فهو في بلده. وهذه الصفات التي يذكرها جعفر وعمر لم تكن صفات صعاليك يعيشون في البراري والقفار على اللصوصية وقطع الطريق على هامش حياة القبيلة، ولكنها حياة الصفوة من المجتمع، فهما معا من قريش حماة بيت الله العتيق، الذي تحج إليه العرب، وقد كانا معا من علية الناس في جماعتهم، فجعر بن أبي شيخ الأباطح طالب كما يقول الشاعر القديم، وعمر كان إسلامه طريقا لعزة الإسلام نظرا لعزته ومنعته في قومه، وإنما كانا يتحدثان عن الحالة الكلية التي يعشيها العرب في ذلك العصر المشار إليه، مقارنة بالأمم الأخرى المجاورة لهم. وهو مايبين أن الوعي الجماعي للأمة لم يكن موجودا الذي يقوم عليها تصور الهوية، كما يبين تغيرا نوعيا في الوعي بالذات سواء لدى جعفر أو عمر فيما بعد حين أصبحوا أمة ناهضة تتطلع لما تتطلع إليه الأمم المتطورة، ولأنه بضدها تتبين الأشياء فإن هذا الشعور ببداية الوعي يؤكد انعدامه من قبل.

- الرياض