Saturday 06/12/2014 Issue 454 السبت 14 ,صفر 1436 العدد
06/12/2014

واقع الأندية الأدبية ومستقبلها (1-2)

الأندية الأدبية من أبرز مجالات الاهتمام الرسمي بالثقافة في المملكة، وهو اهتمام يذهب إلى الأدب (شعرا وسرداً ودراسات نقدية وتاريخية متعلقة بهما) متحاشياً غيره من ألوان الفعل الثقافي والفني التي اختصت بها جمعيات الثقافة والفنون، فكانت جمعيات الثقافة والفنون قياساً على ما تلقاه الأندية الأدبية من اهتمام موضع تهميش رسمي، سواء بعدم الصرف عليها من قبل الجهة المسؤولة عن الثقافة وهي وزارة الثقافة والإعلام (حتى أعلنت التقشف في الآونة الأخيرة وتوقفت كثير من مناشطها وفعالياتها المجدولة) أو بما تلقاه الفنون والمناشط الثقافية التي ترعاها (وهي المسرح والتشكيل والموسيقى والفولكلور الشعبي) من تراتبية القيمة على ما تختص به الأندية الأدبية، وضيق المجال الحيوي الذي يعكس ضآلة الاهتمام.

فإذا ما تساءلنا عن أسباب هذه الظاهرة ومدلولها، فإننا سنفهم التصور للأدب والوظيفة التي يراد للأندية الأدبية أن تنهض بها، ومن ثم نجاعتها في ممارسة دور ثقافي فعال، وأسباب الصراع والمشكلات التي تنشب فيها: بين أعضائها المنتسبين إليها من جهة، وبينهم وبين الوزارة من جهة ثانية، وبين الأندية الأدبية والأدباء الذين لم يجدوا في الأندية ما يجذبهم إليها من جهة ثالثة. وقد نقول إن الصراع والمشكلات ليست عامة في كل الأندية وهناك مشروع لائحة جديدة سيغلق الباب دون أي منفذ للمشادة والاختناق... ولكن علينا هنا أن ننظر إلى الصراع الحادث والمشكلات المصاحبة من زاوية مفهومية للأندية الأدبية، بحيث لم يكن التعيين من جهة الوزارة لمجالس إدارات الأندية، بأقل إثارة للمشكلات، وادعى للعزوف عن الأندية، وأمعن في تشتيت جهدها، من التحول إلى الانتخاب للمجالس.

وليس من شأننا هنا أن نبحث عن حل للصراع أو براءة من المشكلات، بل قد نقول إن الصراع والمشكلات ظاهرة طبيعية وضرورية في المشهد الثقافي، ولا يخلو منها مشهد إلا كان الجمود مآله. لكن الصراع والمشكلات قد تكون باعثاً على الجمود وقد تكون عرضاً لمرض أو اختناق يحسن معالجته وتنفيسه؛ وما أعنيه هنا هو هذا الصنف الأخير. والمسألة –من قبل ذلك ومن بعده- يمكن أن تكون موضوع تقويم وتحليل خارج حسابات الصراع وبعيداً عن متعلقاته أو دواعيه، فالبحث عن جدوى للأندية الأدبية ومضمار حيوي لنشاطها، لا يستقل عن بحث مفهوم الأدب الذي تنتسب إليه والوظيفة التي ينهض بها، وعلاقته في هذا وذاك بالفن في عمومه الذي لا يمكن تصور الأدب بمعزل عنه إلا في لحظة الإشارة إلى أزمة في ثقافة المجتمع.

إن اختصاص الأندية الأدبية بالأدب (أي بالفن الذي يتركز في اللغة اللسانية) هو اختصاص متعلق بنخبة اجتماعية محددة، ومن ثم فإن الأدب هنا يمتلك وظيفة «توجيهية» تنزل من الأعلى إلى الأسفل أو من الأديب إلى جمهوره. وهذه العلاقة العمودية أوضح ما تكون في الشعر وفي المحاضرة، وقد نشأت الأندية الأدبية في المملكة في وقت كان صدور رواية حدثاً نادراً، ولم يكن المجال يتيح للقصة القصيرة ما يتيحه للشعر. كان هذا الدور التوجيهي للأديب هو الدور الذي قامت عليه الأندية الأدبية، أي الدور الذي يستلزم حضور الأديب بذاته وشخصه، ويمكن أن نفهم هذا الدور ونميزه بمقابلته بدور الكاتب المسرحي الذي تختفي ذاته مفسحة أمام الجمهور واقعاً فنياً موضوعياً بشخصيات متعددة، وعلاقة أفقية مع الجمهور لا رأسية؛ أي ليست نازلة عليهم من الأعلى.

وما يبدو في المسرحية أو السينما من اختفاء شخصية الكاتب وذاتيته، يبدو في الفنون الشعبية التي تمثِّل ألوان الرقص والغناء التي لا تنتسب لمؤلف محدد. وحتى الشاعر الشعبي بالمعنى الذي يؤدِّيه في الرقصات المحلية المختلفة، يذوب موقعه في إطار الجماعة، أو يكتسب بحكم صوته الفولكلوري موقعاً ضمن المجموع وليس موقعاً شخصياً وذاتياً، ولذلك فهو ينطق بصوت الجماعة، ويغنِّي على الألحان المتوارثة فيها. والموسيقى التي تتجرد من اللغة المباشرة هي قسيم الفنون التشكيلية في تجريد الذات وإخفائها، وفي الخلوص إلى واقعة فنية عصيَّة على الاستخدام والتوظيف، فهي مخدومة في ذاتها ولذاتها التي تجسِّد درجة صافية من درجات الفن والخلوص الجمالي. ولذلك فإن علاقة الجمهور بها علاقة أفقية أي علاقة تفاعل وتشارك ولذة فنية خالصة أو فرجة أو لا علاقة. وقد أحاط بعض الفقهاء الموسيقى والفنون التشكيلية بالإنكار أو التحفظ باستدلالات نقلية هي موضع نظر وتمحيص دقيق ينتهي إلى نفي صحتها من آخرين، وحين يضعف الدليل النقلي في مواجهتها فإن العلة العقلية لن تجد سوى الخلوص الجمالي أو الغائية الفنية فيها التي لا تتيح وظيفة توجيهية ونفعية مباشرة لا قيمة للجمال الفني عند الفقهاء بمعزل عنها. وينبغي أن نتذكر هذه العلة ما دمنا بصدد التفكير في علة الفصل للأدب عن الفنون الجميلة والتردد في محضها المنزلة نفسها التي نمحضها للأدب وأنديته!

وعلى الرغم من أنه يمكن الاحتجاج بما نَحَتْه القصيدة الحديثة من تحاشي الحضور الذاتي للشاعر بالمعنى التقليدي أو الرومانسي، والهروب من العاطفية، ومن اللغة المباشرة، وتأكيد صفة موضوعية وجماعية للنص؛ فإن الشاعر وجمهوره ظلا مولعين بنرجسية الشاعر وطغيان أناه، وظلت الأمسيات الشعرية والأكف التي يعصف بها التصفيق بين حين وآخر تأخذك إلى أجواء قديمة. أما الرواية التي نعرف مقدار المسافة التي تباعد بينها وبين القصيدة من جهة اختفاء شخصية مؤلفها فيها وحفولها بالتعدد الصوتي والحوارية بما أكسبها حضورا حديثاً بارزاً هو حضور التلاؤم مع جمهور أكثر شعوراً بالاستقلالية وتصوراً للحرية، فإن الرواية السعودية في معظم إنتاجها بما فيه مرحلة طفرتها منذ منتصف التسعينات وإلى الآن، لم تشكِّل مسافة تباعد عن كتَّابها، وظل الصوت التوجيهي صوت المرشد إلى الصواب الذي يراه مؤلفها من وجهته، حاضراً. ولا ننسى –على الرغم من ذلك- أن القصيدة الحديثة لم تكن موضع ترحيب في معظم الأندية، وما تزال الرواية موضع تحاش من بعضها.

ولم يقتصر تأثير هذا التصور الذي انحصرت فيه الأندية الأدبية على سَجْن الأدب في قفص الرسمية والنخبوية، والحيلولة بينه وبين وهج الحياة وحرارتها وكدحها، أعني الحيلولة بينه وبين ما يصنع الأدب بوصفه موقفاً لم يكن ولا يمكن أن يكون لموظف برتبة مثقف، ولا لأجير برتبة شاعر. بل تعدى ذلك إلى اتساع دائرة المتصفين بالأدب، وتزاحمهم على الوجاهة الاجتماعية التي تصنعها لهم الأندية من دون أي قدرة على تحديد ضوابط صلبة يمكن بها الحد من عددهم، أو ضمان قدر معقول من التجانس والتشارك بينهم. ولقد حاول المسؤولون عن الأندية الأدبية والعاملون فيها تدبير ضوابط لمن يستحق عضويتها والانتساب إليها والعمل فيها، ولكنها كانت تتهاوى أمام سيولة المفهوم الأدبي ذاته، سواء نظرنا إلى هذه السيولة من زاوية الكثرة في أعداد الشعراء والكتاب بأي معنى، أو من زاوية القابلية للتمدد في كل اتجاه، زاوية الكتابة عن الأدب والثقافة بأي معنى، تلك التي كانت هي الأخرى مؤهِّلا إلى رتبة الأديب أو المثقف، يستطيع الولوج منها من لم يحظ بصفة الشاعر أو السارد أو الكاتب، ويصبح موصوفاً للأدب في مقام باحث أو مؤرخ أو ناقد... الخ.

وقد يبدو الأمر أكثر جلاء إذا ما نظرنا في الصفة التي يتحدد بها الانتساب إلى الفنون الجميلة في جمعيات الثقافة والفنون؛ فمن السهولة بمكان أن تتحدد في أذهاننا صفة الفنان التشكيلي، وهي صفة قائمة على حدود صلبة في التحديد للفن الذي ينتسب إليه بحيث لا يغدو سهلاً ادعاؤها من أي أحد، ولا توافرها بكثرة تشبه كثرة الشعراء والأدباء، والأمر نفسه يمكن حسابه لدى المسرحيين والموسيقيين. ونظرة أخرى إلى منتسبي جمعيات الثقافة والفنون (في مسافة الاختلاف عن الأندية الأدبية) فإن أحداً لا يمكنه أن يرى تزاحماً على الوجاهة الاجتماعية كما هو الحال في الأندية الأدبية التي امتازت بحظوة مالية ومعنوية وبملتقيات ومؤتمرات وجوائز واستضافات في الداخل والخارج وتشريفات على أعلى المستويات. ولهذا نشأت في الجمعيات روابط بين المنتسبين إلى الفنون التي تحفل بها، لا سند لها إلا المحبة للفن والالتقاء عليه والتشارك فيه. وسجَّلت مناشط الجمعيات صفحات مشرقة لأعضائها في بذلهم وتطوعهم والتضحية بجهدهم.

ونستكمل الحديث في الأسبوع القادم إن شاء الله

- الرياض