يسعدني أن أقدم لقراء المجلة الثقافية حصريا مختارات من ترجمتي لكتاب «دور إيران في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1981 في البحرين» الذي صدر قبل أيام عن «مدارك للنشر»، دبي. والكتاب هو عبارة عن بحث فريد ونادر للباحث الشاب حسن طارق الحسن وهو محلل سياسي واقتصادي بحريني. حصل الحسن على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية ودرجة الماجستير في العلوم المالية من معهد الدراسات السياسية في باريس (سيانس بو). وحالياً، يتابع طارق دراسة الماجستير في الاقتصاد السياسي الدولي في كلية لندن للاقتصاد، المملكة المتحدة. وقد حذفنا هوامش المؤلف العديدة لأنها لا تناسب النشر الصحفي.
البحث:
في ديسمبر 1981، حاولت مجموعة سمت نفسها بـ «الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين» تنفيذ انقلاب عسكري في البحرين ولكنها أخفقت. وكانت «الجبهة» قد أصدرت مجموعة من المطبوعات (نشرات وكتب) التي وصفت فيها جهودها للإطاحة بعائلة آل خليفة الحاكمة وتأسيس نظام إسلامي على النمط الإيراني بدلاً منها تقدم هذه الوثائق (المطبوعات) أدلة على تواطؤ الجبهة مع الحرس الثوري الإيراني، وحصولها على دعم النظام الإيراني لأنشطتها المعادية للحكومة البحرينية.
ولكن الباحث في هذه القضية، يجد صعوبة في تمييز وإدراك دور إيران في هذه المحاولة الانقلابية والاضطرابات السياسية التي اجتاحت البحرين بين عامي 1978 و1996، نظرا إلى أنه يقع بين «مطرقة» البروباغاندا الثورية للجبهة، من جهة، و«سندان» الادعاءات الحكومية الرسمية، من جهة أخرى.
إن الهدف من هذا البحث هو تقديم أدلة تثبت تواطؤ إيران وتدخلها في الشؤون السياسية الداخلية للبحرين من خلال تحليل مطبوعات «الجبهة»، والتي سعت إلى إسقاط عائلة آل خليفة الحاكمة واستبدالها بنظام إسلامي مماثل لإيران(2). اتهمت الحكومة البحرينية «الجبهة» بمحاولة تنظيم انقلاب عسكري في عام 1981، وألمحت إلى أن أعضاء من «الجبهة» قد تم تدريبهم من قبل «الحرس الثوري الإيراني» وحصلوا على دعم من إيران(3). تحليل مطبوعات الجبهة يقدم ميزة بحثية خاصة للتعرف على درجة التدخل الإيراني مع تحوط ضد مبالغة الحكومة البحرينية المحتملة في تضخيم بعض جوانب دور النظام الإيراني. ومع وضع إنكار الحكومة الإيرانية المتكرر جانباً، يمكن – جدلياً – القول: إن «الحقيقة» تكمن في مكان ما بين: «مزاعم» الحكومة البحرينية من جهة، وبروباغاندا (دعاية) «الجبهة» من جهة أخرى، وهو ما يحاول هذا البحث تسليط بعض الضوء عليه.
ولكن من الضروري أن نعطي أولا عرضاً موجزاً للسياق السياسي في البحرين منذ منتصف الخمسينيات حتى محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1981. وسيعقب ذلك تعريف للجبهة والشخصيات الرئيسة فيها، فضلاً على مناقشة الأحداث التي اتهمت بالمشاركة فيها. ومن ثم سيكون من المفيد فحص المحاور الرئيسة الخمسة التي بدا أن النظام الإيراني قد لعبها بخصوص «الجبهة»، وهي: (1) الأيديولوجية؛ (2) القيادة أو التوجيه؛ (3) التغطية الإعلامية؛ (4) الإمدادات والدعم (اللوجستيات)؛ وأخيراً (5) التدريب العسكري.
الوضع السياسي في البحرين
تمثل سنة 1954، منطلقاً تاريخياً مهماً لبداية الاحتجاجات السياسية المنظمة في البحرين والتي شكلت ومهدت للمشهد السياسي في البلاد لسنوات قادمة؛ فبعد سلسلة من الاحتجاجات التي قادها سائقو سيارات الأجرة بعد إعلان الحكومة وضع نظام للتأمين الإلزامي، قررت مجموعة من المثقفين، لعل أبرزهم عبد الرحمن الباكر (*)، التحرك ضد الوضع الراهن وإعلان عزمهم على إنشاء جمعية بحرينية تمثل العمال من جميع الفئات العرقية والمذهبية، مستفيدين من الحماسة للقومية العربية والاشتراكية في ذلك الوقت، ونجحت الجمعية التي سميت بـ «هيئة الاتحاد الوطني» (NUC) في ضم حوالى 14.000 عامل بحريني، وفاز مرشحوها بتفوق في انتخابات اللجنة التي كان من المفترض أن تعد صياغة قانون العمل الأول(4).
ولكن نجحت الحكومة في قمع الحركة. أولاً، استغلت القيادة البحرينية فشل الهيئة في جذب رجال الدين الشيعة لقضيتهم، وشجعت هؤلاء (أي رجال الدين الشيعة) على تشكيل منظمة منافسة، «هيئة المؤتمر الوطني» (NCC)، في عام 1955، في محاولة لمنع أي إجماع شعبي شامل على «هيئة الاتحاد الوطني».
ثانياً، قامت البحرين، بتشجيع من البريطانيين، بتجريم نشاطات «هيئة الاتحاد الوطني»، ونفذت في عام 1956 حملة واسعة من الاعتقالات وعمليات الترحيل لزعامات الحركة(5). وهذا الإجراء، على ما يبدو، أثبت نجاحه في إنهاء الوجود الرسمي للحركة في البلاد.
ولكن هذه التدابير القاسية جاءت بنتائج عكسية حيث أجبرت حركات المعارضة لإعادة تنظيم أنفسها لتتحول إلى جماعات سرية (تحت الأرض) يتزايد تطرفها على نحو متسارع بسبب الإجراءات القمعية التي تتخذها الحكومة ضدها. وبحلول نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، عززت هذه المجموعات قواعدها الشعبية بفضل المزاج الذي ساد البلاد بعد وصول حزب البعث العراقي إلى السلطة- وكذلك وصول ناشطين عراقيين وإيرانيين إلى البحرين(6). وفي أعقاب إقالة مئات العمال من شركة النفط الوطنية، شركة نفط البحرين (بابكو) في عام 1965، نفذت تلك الجماعات السرية ما أسمته بـ «انتفاضة مارس»، التي شلّت العديد من القطاعات الاقتصادية طوال السنة. وكان السخط، إلى حد ما، بدافع من الوجود الاستعماري البريطاني – ولكن الاحتجاجات والتظاهرات انخفضت بشكل ملحوظ بعد إعلان بريطانيا أنها ستنهي وجودها في البحرين. وبين عامي 1968 و1972، بذلت الحكومة جهوداً كبيرة لخلق روح وطنية وتوافق في الآراء (استعداداً للاستقلال عن بريطانيا)، بما في ذلك إنشاء جيش وكذلك الانسحاب من مشروع لإنشاء اتحاد فدرالي لدول مجاورة كقطر وإمارات الخليج الأخرى، وذلك بسبب رفضهم اعتماد نظام تمثيل نسبي من شأنه أن يسمح بمشاركة الشعب. وبينت نتائج دراسة استقصائية للأمم المتحدة في عام 1970، أن الغالبية العظمى من سكان الجزيرة تتمنى للبحرين أن تصبح دولة مستقلة أيضاً لتعزيز المزاج الوطني العام. وفي محاولة أخيرة لإثارة المشاعر المناهضة للحكومة، وحدت العديد من الحركات السرية جهودها وأطلقت «انتفاضة مارس» ثانية في عام 1972، والتي قمعت بسرعة وفعالية من قبل قوات الأمن.
وإدراكاً منها للتحديات التي تواجهها، عجلت القيادة البحرينية بجهودها الرامية إلى صياغة أول دستور وإنشاء برلمان ذي غرفة واحدة ينتخب عن طريق الاقتراع الجماعي العام للذكور في عام 1973. ولكن التجربة أخفقت، حيث رفض البرلمان تمرير مشاريع قوانين، مثل قانون أمن الدولة، الذي اعتبرته الحكومة أساسياً في ما يتعلق بالأمن القومي. إضافة إلى ذلك، فإن النظام اعتقد أن مجلس النواب عازم على رفض تجديد العقد الذي يسمح بتشغيل قاعدة بحرية أمريكية (للأسطول الأمريكي الخامس). ولذلك قام الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، بحل البرلمان وعلق العمل بالدستور في عام 1975، بعد عامين فقط من تأسيسه.
انبثاق الجبهة
في هذه الأثناء، كانت العديد من المنظمات الإسلامية الشيعية تزدهر في المنطقة، ولاسيما في أماكن مثل إيران والعراق ولبنان والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، والبحرين(7) . ومن بين هذه المنظمات كانت «الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين» (أي «الجبهة») التي أُعلن وجودها في 27 يناير، 1976 (25 من المحرم 1396 هـ )، بالرغم من أن مدير الإعلام فيها، عيسى مرهون، ذكر في مقابلة إن «هذا الإعلان جاء بعد سنوات عديدة على تأسيس «الجبهة» الفعلي لعدة أسباب، وعوامل منعتنا من إعلان وجود الجبهة فور إنشائها»(8).
أهداف الجبهة، وفقاً لمرهون، يمكن تقسيمها بين فورية وطويلة الأجل. وكانت الأهداف الفورية للمجموعة: (1) إسقاط نظام آل خليفة؛ (2) تأسيس «نظام إسلامي حر»؛ (3) الحصول على استقلال حقيقي للبحرين؛ (4) تحقيق استقلال ثقافي واقتصادي؛ (5) القضاء على الأمية وجعل التعليم إلزامياً؛ (6) تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي في البلاد.
كانت أبرز شخصيات الجبهة تشمل: أولاً وقبل كل شيء، حجة الإسلام هادي المُدرِسي(9). المُدرسي ولد في العراق في عائلة علمية شيعية بارزة في 1956/1957 (1376 هـ)، ولجأ المدرسي سياسياً إلى البحرين بسبب خوفه من التعرض للاضطهاد على يد النظام البعثي في عهد صدام حسين(10). وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، بدأ هادي المدرسي مع أخيه الأكبر، محمد تقي المدرسي، بالعمل في مشروع تصدير الثورة الإسلامية إلى دول الخليج(11). وفي البحرين، بدأ المدرسي ما وُصف من قبل الجبهة بنشاط تحت الأرض لإحداث وقيادة الثورة. ولكن استمر المدرسي «علناً» في توجيه وتثقيف الجماهير من خلال العديد من المحاضرات، والكتب، والخطب(12). وفي 27 أغسطس 1979 (4 شوال عام 1399هـ)، اعتقلت قوات الأمن البحرينية المدرسي في منزله، ورحّلته فوراً إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ومنها - وفقاً للجبهة - كان من المفترض إرساله إلى العراق ليواجه الإعدام (13). ولكن المدرسي لم يُرسل للعراق واستمر في قيادة النشاط المناهض للحكومة البحرينية من إيران. واتهمته الحكومة البحرينية بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1981. وهو اتهام رد عليه قائلاً في لقاء صحافي مع مجلة الشراع اللبنانية: «تلك تهمة لا أنكرها، وشرف لا أدعيه»(**).
انتهت المختارات من هذا الكتاب
** ** **
هوامش المترجم:
(*) عبد الرحمن محمد إبراهيم صالح الباكر (1917-1971): نقابي وسياسي بحريني. ولد في المنامة عام 1917. ساهم في تأسيس » هيئة الاتحاد الوطني «عام 1954، التي تعتبر أول كيان سياسي بحريني شعبي منظم يعارض الاستعمار البريطاني في البحرين، ويطالب بالمشاركة الشعبية في الحكم، كما أسس الباكر مع مجموعة من المثقفين داراً للصحافة سميت بـ «دار صوت البحرين» وأصدروا من خلالها مجلة باسم صوت البحرين. وتصدى الباكر لتقييد حرية التعبير، لكنه اضطر لإغلاق مجلة صوت البحرين في نهاية الأمر. عملت قوات الاحتلال البريطاني في البحرين على إجهاض أعمال «هيئة الاتحاد الوطني» بعد أن ضاقت بها ذرعاً بسبب تصاعد مد القومية العربية الداعية لاستقلال الدول العربية. وفي أكتوبر عام 1956، دعت الهيئة إلى إضرابات وتظاهرات احتجاجاً على العدوان الثلاثي ضد مصر بعد تأميم قناة السويس، ما أدى إلى اضطرابات وشغب في البحرين. وفي نوفمبر من نفس العام، أمرت الحكومة باعتقال أبرز قادة الهيئة، وحوكموا وحكم عليهم بالسجن 14 عاماً في جزيرة سانت هيلانه، التي نفي إليها نابليون سابقا. أفرج عن عبد الرحمن الباكر والآخرين من سجن المنفى سنة 1961، ومن ثم توجه إلى بريطانيا وانتقل بعدها إلى بيروت. توفي الباكر في بيروت عام 1971. ألف الباكر كتاباً بعنوان «من البحرين إلى المنفى... سانت هيلانه». (العيسى).
(**) انظر الملحق رقم (1) في الكتاب للنص الكامل لحوار مجلة الشراع مع هادي المدرسي. (العيسى).