د. عبد الله الصالح العثيمين
28 صفحة من القطع المتوسط
شاعرنا جمع في عنوانه بين النثر والشعر.. ما يعنيني هنا شعره.. أعني مشاعره الجياشة تجاه وطنه.. وأمته على مستوى ساحته العربية ومساحته الإسلامية.. وما عاشته من أحداث.. وما عايشته من متغيرات في عصره الحديث.. وهي كثيرة ومثيرة.. بداية بوطنه العربي وهو يتنقل بين ربوعه ماذا قال خلال زيارته للأردن الشقيق:
أتيت أحمله سطراً لشطره
مشاعر وأحاسيس ووجدان
إن لم يرق لهواة الشعر قافية
أو ند في سبك لحن وأوزان
فللهوى في عيون العاشقين رؤى
هي الجبان إذا ما عز تبيان
وجئت يحملني عبر المدى قبس
معطر بالشذى الفواح فتاك
ومن عشيات نجد مستطاب فيها
رياه شح وقيصوم وريحان
إنها تحية وطن لوطن.. وصوت مشاركة فاعلة في منتدى شومان الثقافي بعمان ..
أتيت من وطني شوقاً إلى وطني
وأرض يعرب لي دور وأوطان
هذه تحية.. والواحدة لا تكفي لوطن أحبه شاعرنا.. إنه يحمل باقة من الشيح والقيصوم والرطب هذه المرة..
أتيت أحمل من نجد أصالتها
رفاقي الشيح والقيصوم والرطب
وطائف من صبا أذكت نسائمه
غمامة بالشذا الفواح ينسكب
وروعة من مغان فوق تربتها
تدفق الحرف شعراً وازدهى الأدب
أن يعشق التاريخ.. يطوف بين معالمه وآثاره.. يسترجعه ويذكر به كي لا ينسى..
وجئت أستنطق التاريخ في سلع
وكل ما دونت بتراؤها عجب
وأجتلي في ثرى اليرموك ملحمة
كتائب النصر فيها سادة عرب
وجئت ألثم من عمال مبسمها
إذ شاقني في رؤاها ثوبها القشب
تذكر ابن الوليد المختصر على ملوك القيصر.. هكذا عشقه تاريخياً لأنه يحب ويخشى عليه.. ومن الأردن إلى أرض الكنانة إلى عظمة أمجادها..
جعل الكنانة قلعة أركانها
تخشى من الباغي الحقود وترهب
متوثباً كالرعد دوى صوته
في وجه أعداء الحمى لن تقربوا
يومها وقف العالم العربي بقياداته وشعوبه في صفها في وجه العدوان الثلاثي فكان النصر.. وكان صوت شاعرنا يجلجل في فضائنا العربي:
قداسة الثأر في الأعماق تلتهب
وصولة الحق يذكي نارها الغضب
كيف لا يصرخ بملء فيمه على مشهد الشعب الجزائري وهو يقاوم الاستعمار الفرنسي تحريراً لترابه وإنسانه:
وثورة الشعب كالإعصار ما برحت
يصلى الأعادي من فلواتها لهب
تواثبت في ذرا الأوراس هائجة
في دمها صولة الطاغين تنتحب
حركة الشعب ما أنقى نضارتها
إلا الدماء التي من أجلها سكبوا
إنها ضريبة الحرية.. دون استشهاد لا شهادة حية في ذاكرة التاريخ.
لم يغفل شاعرنا المتوقد وطنية أول وحدة عربية معاصرة بين مصر وسوريا استبشر بها خيراً.. وغناها شعراً:
يا ربوع الخلد حيي أمة
شغفت بالوحدة الكبرى هياما
أمة زفت إلى هام العلا
وحدة زفت على القطرين عاما
يخفق النصر على آفاقها
باسم الثغر طروباً مستهاما
نفحات النيل هزت بردى
فمضى يلغي على النيل الخزامى
شريط من الماضي مضى في زاوية الزمن لمجرد التذكير.. أعقبه انفصال.. وقتال.. واقتتال.. وانتكاسة للآمال.. ما أجمل الماضي وما أجهل الحاضر.
على مقربة من بردى يجري الفرات ودجلة.. وحولهما مؤتمر لوزراء الخارجية العرب مظهره وشعاره التقارب العربي في فترة عصبية من تاريخه.. انقض الموكب كما هي الحال اتفاق على عدم الاتفاق.. هذا ما استشعره شاعرنا العثيمين في مقطوعته دعاء الصمت.
بغداد والوزراء فيك تجمعوا
ليدوروا تزويرهم ويسجلوا
قولي لمن حلول لا تتشبوا
قسما - مصاب أمتي - أن تفشلوا
إن الخلاف على المبادئ حله
هيهات أن يدنو إليه توصل
إن السكوت عن الذيول خيانة
فعلى دعاة الصمت أن يترحلوا
وهكذا كان.. كل واحد رحل إلى سبيله وبقي الخصام والانقسام قائماً حتى اللحظة..
فارس الرحلة الوطنية نذر نفسه مدافعاً عن عقيدته وعن عروبته.. وما برح صوتاً مسموعاً لا ينكفئ ولا ينطفئ ..
إني نذرت لأمتي وتري
ما دام ينبض في العروق دم
امجادها لحن على شفتي
وكفاهها في خاطري نغم
استلهم الكلمات ناطقة
من مجدها فيصوغها القلم
شعرا على نبرات احرفه
يتعانق الاصرار والشمم
ورغم التداعيات.. والإحباطات.. والتراجعات.. والمخاطر التي تهدد مصير وطننا العربي الكبير من داخله ومن خارجه ما زال شاعرنا يحلم بغد جميل جديد.. الحلم هو ما تبقى:
أرنو فأبصر في طلائعه
همماً تفجر نارها همم
وأرى الحمى الدامي يعانقها
لثماء ويبسم للشهيد فم
والوحدة الكبرى يرف لها
في كل ساح حرة علم
نقول جميعاً معك يا رب..
شاعرنا أخذه الحلم.. وما لبث أن صفعه العلم بما لا يحتمل.. استرجع تاريخه.. مشهد الماضي.. ومشهد الحاضر وشتان بين المشهدين.
فجاء عنوان بقينا كما كنا
بقينا على مر الليالي كما كنا
فلم نستفد منها ولا غيرت منا
بقينا ولم نحفل بما لاح من رؤى
عواد ولم نفطن إلى خطر عنا
نهيم بوادي التيه حيرى تلفنا
سدول ظلام في ضمائرنا جنا
ضمائر في ظل النفاق ترعرعت
فهامت به شوقاً وتاقت له فنا
إلى أن يقول:
بقينا صراعاً بين لام حاضر
وماض على أطيافه نقرع السنا
تمر بنا الأيام دون توقف
وتمضي لياليها ونحن كما كنا
وهنا المصيبة..
رتل شاعرنا ترنيمة حب لا يضاهيها حب على لسان مناضل بعثها إلى أمه:
أمي الحبيبة كيف الربع والدار؟
وكيف أسرتنا؟ والصحب؟ والجار؟
وبلغة التساؤل المر:
ألم يزل كل شيء في مدينتنا
تحيطه عن يد التغيير أسرار؟!
ألم تزل حفلات الرقص دائرة؟
والليل يعتله التهريج والزار؟!
كأن مغصباً لم يغتصب بلدي!
وأمتي لم يدنس عرضها العار!
ومسجد القدس لم تذرف منائره!
دمعاً ولم تلتهم محرابه النار!
أمي تبرمت من ذلي ومن دعتي
وهاج في دمي الايمان والثأر
ولم تعد فلسفات الصمت تخدعني
وإن تصفهن أهرام وأخبار
لم يعد الأقصى واحدة.. ولا ما تبقى من فلسطين أن يذرف الدمع الكنانة تشكو من الداخل. وليبيا بين النار والنار. وتونس تبحث عن استقرار.. وسوريا تحترق.. والعراق في مهب العاصفة.. والسودان سودانين والصومال صومالين واليمن بحث عن يمنين والعالم الإسلامي حقل تجارب لأسلحة الكبار.. المستقبل يا عزيزي مسكون بالأخطار.. لابد أن تفد الأمر عدته.. قبل أن نتحول إلى بقايا أخبار لا تسر القارئين.
الدكتور العثيمين بخياله الواسع عاش الأسطورة العمرية منتزعة من شريط حياته منذ أن كان صبياً:
حينما كنت صبيا
كنت أصغي للأساطير فاطرب
لن أكن وحدي الذي يصغي فيطرب
كل طفل في بلادي كان مثلي
حينها كان الحلم الوادع المواعد يدغدغ العواطف الغنية يرسم لها خلال المستقبل بريشة ملؤها الأمل:
يسمع الجدة تجتز أساطير عجيبة فيصدق
كل شيء كانت الجدة تحكيه يصدق
وبعد أن شاب عن الطوق.. وبدت الحياة على واقعها.. وبعد أن أخذه العمر إلى مرحلة الكبر:
وتجاوزت سنين العمر من طور لآخر
غير أني.. رغم أن الشيب قد بات ووشيكاً
لم أزل أسمع أحيانا أساطير عجيبة
وحكايات تردد لأصدق
لا يريد شاعرنا لنفسه أن ينفك عن ماضيه الحلو حيث براءة الأطفال في عينيه.. ولكن هل يقوى على الثبات؟.. أبداً.. أخذته الصحوة إلى حيث لا يشتهي.. إلى الواقع بكل مآسيه: حيث الحكايات الغريبة التي تدور في فلكها من حوله.. إسرائيل.. والهزائم.. والزيف.. والباطل الذي أُلبس لباس الحق. والكذب الذي حل محل الصدق، وسلام الاستسلام.
كل ما في الأمر أني..
كنت أصغي للأساطير فأطرب
وأراني الآن أصغي للأساطير فأعجب
بل وأتعجب.. وأضحك ضحكة المهزوم المغلوب على أمره.. إنها صحوة الضمير بعد أن يستيقظ..
هكذا نحن.. في طفولتنا.. في مداركنا المبكرة نستشعر الواقع مجرد لعبة بريئة لا تخلو من سذاجة.. تأخذنا تارة نحو البكاء وأخرى نحو الضحك دون أن توقظ في حواسنا أبعاد ما سيأتي.. بل وأبعاد حاضر لا نقدر على استيعابه لأننا أطفال.. وعلى عضة المفاجأة والمواجهة تكسرت لدينا مجاديف الحلم.. وتداعت أمامنا قوارب النجاة لتعصف بكل ما في دواخلنا من تخلف لذيذ صنعته مفاهيمنا المحدودة غير قادرة على تجاوزه.
عزيزي الدكتور العثيمين.. كلنا ذلك الذي عاش حلمه الطفولي بفكره المحدود الذي يتجاوز في أبعاده أرنبة أنفه.. كان سعيداً بذلك الجهل الذي يطوقه في براءة.. العالم لديه بضعة أكيال أو أميال يتحرك خلالها.. لا يعرف شيئاً في السياسة.. ولا في لعبة الكبار.. ولا في سماسرة الحروب.. ولا الرغبة في الاحتواء والتسلط.. لا يعرف شيئاً عن حاملات الطائرات. ولا الصواريخ العابرة للقارات. ولا المدرعات والمجنزرات.. ولا أصحاب الخوذات المضادة للرصاص.. كل مبلغ علمنا نباطة نصطاد بها الطيور.. أو لعبة نحرك خلفها أقدامنا دون قطرة دم. أو لقمة نكد من أجل الحصول عليها والوصول إليها بشرف دون رشوة.. أو سرقة.. أو سطو لا يحتمل..
كل الصغار يا عزيزي عاشوا أحلامهم.. واستيقظوا مكرهين على واقع لم يكن من اختيارهم.. صرخوا كما صرخت أنت.. بحت حناجرهم.. ماتت كلمات الحزن في دواخلهم.. وبقي صوت القاهر يصم آذانهم.. ويدمي أحلامهم.. ويؤرق مستقبل أيامهم.. إنها حياة واقع الكلمة فيه لمن يملك إملاء الإرادة حتى ولو جاءت على باطل..
يكفي يا شاعرنا الحي أن للحياة الحرة صوت كنت أحد المنادين به.. والداعين إليه دون أن تأخذك في الحق لومة لائم..
وهذا يكفي..