يعد التحليل المحايث أحد أهم المصطلحات التي كانت البنيوية في ستينيات القرن الماضي تتناولها كالترياق السحري الذي يعالج كل الأمراض، فما التحليل المحايث؟ ولماذا لم يتح له أن ينتشر في الاستعمال الاصطلاحي على الرغم من أنه من أنسب المصطلحات للتراثيين وللاتجاه السلفي والظاهري في فهم النص وتناوله؟
أصبحت كلمة (محايثة) تدورعلى شفاه كثير من الباحثين والنقاد بل المثقفين ويعنون بذلك البعد عن الإسقاط القرائي أو إصدار الإحكام من الخارج؛ ولانتشار الاستعمال التداولي لهذه الكلمة إضافة إلى ارتباطها ببعض التساؤلات الثقافية والنقدية المهمة، لابد في البداية من تقرير أن التقبل للمصطلحات العلمية ودراستها لا غضاضة فيه ولكن في إطار مقارنتها أولا بالتراث الاصطلاحي للمنجز العربي، من ثم يكون الموقف إزءاها إما الاكتفاء بالمصطلح التراثي وإما القبول بالمصطلح الجديد وتوظيفه من غير تعديل أو القبول بالمصطلح الجديد مع تعديله أوصرف النظر عن المصطلح وصنع مصطلح جديد في إطار جهاز مفاهيمي تنظيري خاص؛ ولأن القدرة على التنظير العلمي تكاد تكون لدينا معطلة لأسباب بنيوية تزامنية ولأسباب تأريخية ديكرونية فمن النادر أن نرى صناعة مصطلحية بقدر ما نرى من ترجمة مصطلحية قد تكون غامضة في الغالب لأنها منتزعة من جهاز تنظيري متكامل.
تعد كلمة (محايث، محايثة) كلمة مولدة من (حيث) وهي في اللغة العربية ظرف مكاني، والمشكلة في ترجمة هذا المصطلح عن المصطلح الفرنسي ( immanence ) أنه قد لا يناسب كلمة (حيث)؛ لأنه أقرب إلى الملازمة الطبيعية للواقعة ذاتها وليس ظرف الواقعة فكلمة (في) أنسب من (حيث)؛ ثم إنه اتخذ صيغة (المفاعلة) التي تدل على التشارك فحينما نقول (معنى محايث) تعني أنه يقوم مع غيره بعملية المحايثة وننتظر اكتمال الطرف الثاني للصيغة، وهذا ما لايؤدي إليه الحد المفهومي للمحايثة ذاتها، أما المحايثة بمعناها الفلسفي فمن أهم تعاريفها ما ساقه قاموس لا لاند ل «م بلونديل « حيث تعين المحايثة لديه من زاوية ستاتيكية كل ما هو موجود في كيان ما بشكل ثابت وقار، وتعين من زاوية ديناميكية كل ما يصدر عن كائن ما تعبيراً عن طبيعته الأصلية « ولذا وانطلاقا من هذا التعرق كما يقول سعيد بنكراد يكون الحديث عن المحايثة مقرونا بالتجلي باعتبارهما يغطيان نمطين في حياة الدلالة: المادة المضمونية العديمة الشكل والأشكال المتحققة الخاصة.
أي أن المقصود بالتحليل المحايث في النهاية أن النص لا ينظر إليه إلا في ذاته مفصولا عن أي شيء يوجد خارجه والمحايثة تكون بهذا المعنى عزلا للنص عن سياقه أو بحثا عن الشروط الداخلية المتحكمة في إيجاد الدلالة والتخلص عن كل ما هو خارجي إحالي، فالمعنى هو أثر ناتج عن شبكة من العلاقات الرابطة بين العناصر بحسب فيصل الأحمر، وقد انتقلت المحايثة من البنيوية إلى السيمائية وأصبحت مصطلحاً رئيسا من مصطلحات السيمائية، ولم يكتف بارت بإنشاء نقد محايث فحسب كما يشير إلى ذلك فاضل تامر بل إنه مزج السيمائية المحايثة بالسيمائية التأويلية حيث انتقل من دراسة المعنى إلى دراسة معنى المعنى في إطار مستوى الإيحاء...
ويشرح سعيد بنكراد آليات المحايثة من خلال ثنائية المعنى بين المحايثة والتحقق حيث يكون كل إنتاج للمعنى مرتبطاً بمادة مضمونية سابقة في الوجود على التحقق من جهة ومرتبط من جهة ثانية بسيرورة معينة للتعرف والإدراك، والعمليتان تشكلان معاً سيرورة التدليل (السميوزيس) وفي غياب هذه السيرورة يستحيل الحديث عن بناء نصي... وبعد تأكيده على أن المعنى ليس محايثاً للشيء وليس منبثقاً من مادته بل هو وليد ما تضفيه الممارسة الإنسانية إلى ما يشكل المظهر كما لا يحيل على أي شيء آخر سوى ذاته : هذا الشيء هنا لا أقل ولا أكثر وهذا يعني القول بأن التعرف على الواقعة شيء وأن التدليل شيء آخر... فالعين لاترى فقط إنها تحدق وتقسو وتحن وترفض وتقبل أيضاً.. وفي النهاية لدينا معنى مباشر للواقعة ومعان متعددة غير مباشرة تنطلق من الاحتمالات النسقية التأويلية الثقافية التي تقدمها الواقعة وهو ما يعني إعادة بناء قصدية النص وفق مقتضيات السياقات فالمعنى في المحصلة إجراء مرتبط بنسق، وعلى ذلك فإن المعنى المحايث ليس مهما في ذاته بقدركونه الأساس الخام الذي تتم في حدوده صناعة المعاني الممكنة.
لوعدنا إلى التراث لوجدان هذا الأساس الخام الموجود في العبارات أو المعنى المباشر يدور في مصطلحات متعددة مثل (الظاهر، والنص، والمفصل، والمحكم، العام، والخاص ودلالة المطابقة) للوهلة الأولى، ولكن الحقيقة أنه جعل بقية المصطلحات تدور في فلكه وترجع إليه أي أن القيمة كانت لذلك الأساس الخام للواقعة من غير تأويل، وهذا ما لا يمكن حدوثه أبداً فكل معنى إنما هو آت من ا لخارج في النهاية، ولارتباط مصطلحات أخرى (كالمجمل، والعام، والمتشابه، ودلالة التضمن، ودلالة اللزوم) إرجاعيا بما لا يمكن أن ترجع إليه كانت المعضلة هي فراغ المعنى في النهاية، ومحاولة تجميده على مكان وزمان نموذجي لا يمكن أن تتحقق فيه الجمودية ولا النمذجة في إطار توحدي وإنما في إطارات تعددية، ومن هنا كانت متاهة البحث عن المعنى النقي والطهرانية... وقد تشبثت معظم الدراسات النقدية والبلاغية بتلك المتاهة التي كان لها الفعل السيروريالسميوزي بالمرصاد كنهر هادر لا يمكن الاغتسال فيه مرتين.
إن التجليات الحالية للسلفية هي تجليات فراغ المعنى ومحاولة تجميده بشكل تعميمي حتى في الاستعارة والكناية والمجاز لا نجد سوى استعارة مجمدة ومجاز مجمد وكناية مجمدة...
ولكن جعل المعنى المحايث معنى لا معنى له إلا من خلال السيرورة القرائية المتعددة ليس صحيحا على الإطلاق فالمعنى المحايث ضمن شروطه الداخلية قد يحتوي على معنى محايث كما قد يحتوي على جامع المعنى الأقل، وهي ما تحمله العبارة المجردة من موجهات ضد المحايثة لتفضيل قراءة معينة وهنا يظهر جامع المعنى الأقل، كأصغر وحدة ضد المحايثة قد يحملها النص، ولكن قارئ ذلك المعنى الأقل يتعرض دون وعي لسياقات متنوعة قد تحول ذلك المعنى الأقل في سيرورة تأويلية غير مرئية مختفية وليست المشكلة إلا في عدم اكتشاف اختفائها والرضا بالبديل الذي ليس إلا محاربة للمعنى ونزفاً مستمرا للجمود. أما لماذا لم تنتشر استعمالات هذا المصطلح عند التراثيين فلأسباب متعددة... أهمها هي أنهم لم يتجرأوا على الخروج العلمي من محايثتهم التراث فأغلقوا المعنى وأغلقوا النص وأغلقوا التأويل.