لم يكن الشاعر الراحل سميح القاسم، شاعر المقاومة فحسب، بل كان الشاعر المتمرد دوما على الأنساق الشعرية والقوالب المعتادة، لذا لم يطل به المقام كثيرا في الوقوف على ساحل القصيدة العمودية إذ سرعان ما قرر في فورة الشباب تجريب أدواته الشعرية في كتابة قصيدة التفعيلة منتصف الستينيات من القرن الماضي كما يؤكد ذلك النقاد، وقد بدا ذلك ملحوظا في ديوانه «أغاني الدروب» (1964). وكما كتب سميح القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وزاوج بينهما أحيانا، كتب أيضا قصيدة النثر.
بيد أن تبني سميح لقضية محورية هامة مثل قضية فلسطين، وما تمتع به شعره من مقومات، الحماسة والغنائية التي بدت إحدى أهم ركائزه الشعرية أسهم جميع ذلك في إكساب قصائده جماهيرية واسعة تحولت إلى جواز سفر، أعانه كثيرا بالتعاضد مع الدور الذي لعبه بهذا الشأن صديقه محمود درويش في كسر قيود الحصار المفروض على شعره والتخطي به حدود الأرض المحتلة «48»، باتجاه العالم الرحب. ليجيء بعد ذلك دور الدراسات والترجمات إلى لغات العالم لتعزز شعبيته أكثر، إضافة إلى دراسة أعماله الأدبية في الجامعات وعبر الرسائل والبحوث. غير أن بعض النقاد يرجح أن يكون توجه سميح في سنواته الأخيرة من الكتابة الحماسية إلى الكتابة الذاتية وما شاب هذه التجربة من غموض نسبي أفقده بعض الشعبية والجماهير.
ويعد سميح القاسم من المثقفين الموسوعيين القلائل الذين ينم شعرهم عن ثقافة واسعة متنوعة المشارب أحسن توظيفها عبر العديد من النصوص، وتضج عدد غير قليل من صوره الشعرية بالرؤى الفلسفية والفكرية والتأملات، وتتفاوت من ناحية الطول بين شكل «الهايكو»، والقصائد «الملحمية»، إذ عرف عنه رغبته المستمرة في التحديث والتجديد وقد عدته سلمى الجيوسي الشاعر العربي الذي بلغ بشعره ما بعد الحداثة، وكان يميل في قصائده للأسلوب الحكائي وتسيطر روح السخرية النقدية المرة على قصائده، كما في ديوانه الساخر «أنا متأسف» (2009)، الذي يخاطب فيه المحتل:
«سعيتَ. شقيتَ. تعبتَ كثيرا لتتقن قتلي
وبذرتَ مالا كثيرا
لذبحي. وذبح صغاري. وأهلي
وذبحت رابي وأشجار حقلي
وصوتي ولوني وشكلي
وصورة وجهي وظلي
وموتي يصلي
لأجلي
فقل لي
متى سوف تقبل مني اعتذاري
لأني ولدت
حلفت. ومازلت أحلف
أنا متأسف» (أنا متأسف، ص9-11)
حيث تكمن السخرية اللاذعة «التهكمية»، عبر صور النص باعتذار الضحية من الجلاد وهنا تكمن المفارقة.
والشاعر الذي لا يتكلف في رسم صوره الشعرية، بل يتركها تناسب بعفوية وسلاسة فائقة معللا بأن السهل الممتنع هو «أشد أشكال الفنون صعوبة»، يبدو مغرما بالإيقاع وإحداث موسيقى داخلية وخارجية ويلحظ اعتناؤه هذا بانتقاء المفردة أو تكرارها في نسق مموسق والاتكاء غالبا على تقنية المفارقة على مستوى الصورة تارة والمفردة أخرى.
وقد تحول «شاعر الشمس»، و»قيثارة فلسطين»، كما يلقب منذ ديوانه الأول «مواكب الشمس» (1958)، إلى ذاكرة حية ما زالت تؤرشف جراحات فلسطين وشعبها شعرا نابضا منذ الانثيال الأول وهو لم يتجاوز بعد عامه الرابع عشر بعد أن تفتح وعيه على النكبة. وإن كان «شاعر العرب»، كما يسمى أيضا كتب عن الإنسان المقهور في بقاع من الأرض، مصر وأفريقيا وفيتنام.
وقد تجاوز مجموع مؤلفاته الـ70 مؤلفا، تنوعت ما بين الشعر الذي اشتهر به والرواية والمسرح والمقالة والترجمة، كما أن له كتابا مشتركا هو عبارة عن جملة من الرسائل الأدبية التي تبادلها مع رفيق دربه محمود درويش الذي تعرف عليه في مدينة حيفا التي انتقل إليها شابا بعد إبعاده عن بلدته في الجليل «الرامة»، وعرفت الرسائل بـ»كتابات شطري البرتقالة»، كما أطلق عليها الكاتب محمد عليطه عندما كانت تنشر في صحيفة، «اليوم السابع» في باريس وفي صحيفة «الاتحاد» الحيفاوية، وكانت نتاج التواصل بين سميح ودرويش الذي غادر فلسطين في العام 1971م. وقد نشرت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
وقد دون سميح سيرته الذاتية الغنية بالكثير من الأحداث والمآسي والذكريات الأليمة عبر عدة إصدارات كان آخرها عام 2011 بعد اكتشاف إصابته بمرض السرطان، اختار عنوانها ساخرا «إنها مجرد منفضة»، واختار أن يدون فيها ذكرياته كيفما اتفق متمردا على سرد السيرة بشكل متسلسل، واصفا هذا الأسلوب بأنه ممل، وفي منفضته تجد الذكريات المبهجة كما تجد ذكريات الجوع وشظف العيش، وقد أوصى في كتابه هذا بالمكان الذي يحب أن يكون محل رقدته الأخيرة في بلدته الرامة، وهو ما حدث. فيما صدر آخر دواوينه «كولاج3»، قبل عامين.
وكما تفتح وعي سميح الذي ولد بمدينة الزرقاء في الأردن عام 1939م وتلقى تعليمه فى المدن الفلسطينية: الجليل، ثم النَاصرة، على النكبة، وقضى شطرا من عمره في سجون الاحتلال، فقد أغلق عينيه الحزينتين أيضا على ما يحدث اليوم من جرائم في غزة، ورحل عن دنيانا مساء الثلاثاء 19 آب/ أغسطس عن 75 عاماً بعد تدهور حالته الصحية، حيث كان يعالج فى مستشفى صفد فى منطقة الجليل بالأراضي المحتلة، من مرض سرطان الكبد. وإن ووري جثمانه الثرى فالشعر الحي يبقى حيا.