في ضجيج الجرف الصامد في غزة والتصفية الطائفية في شمال العراق والثورة المشتعلة في سوريا والوهم الصعب في اليمن وبكائية الرجل الضعيف للإخوان والنار التي تستعد للاشتعال في ليبيا ومستقبل عربي ملثم بالغموض والمجهول رحل سميح القاسم في هدوء وهو يردد « أنا لا أحبك يا موت..
لكني لا أخافك..
وأدرك أن سريرك جسمي.. وروحي لحافك
وأدرك أني تضيق عليّ ضفافك
أنا لا أحبك يا موت.. لكنني لا أخافك»
هدوء مستسلم لوسط عاصفة من الفوضى والخوف وكأن الشعر بات خارج الزمن الحيّ، ولا عزاء للشعراء، أوكأن العصر الجديد للحياة يسقط الشعر والشعراء من حساباته المادية ليظل الشعر مجرد مدونة «لكلمات عظيمة» وتاريخ «لهمسات ملهمة الإبداع التي أنهكها وجع المشاعر وبكاء الجرحى وأنين المكلومين».
وكأن الشعر أوشك على فقد رفقة المقهورين والمظلومين في ظل ضغوط مادية لاتؤمن بالكلمات حتى لوكانت كلمات ليست كالكلمات، ضغوط دفعت عقولنا الشاعرية في طقسها الماضوي إلى حافة توشك على الوقوع في فخ «الكفر بالكلمات» فأصبح الصوت في متون التقلبات أعظم من الكلمات كما أصبحت الصورة في بشاعة لامتناهية تُخرس تعبير دهشة الألم عن الحركة أعظم من الكلمات، ليُصبح الإنسان «أشد من الماء حزنا».
فالكلمات مهما كانت عظيمة لا تحرر الوطن المخطوف والكلمات مهما كانت عظيمة لا تفك قيد أسير ومعتقل والكلمات مهما كانت عظيمة لاتحمي طفلا من رصاصة العدو ولاتحمي مناضلا من مشتقة المغتصب ولاتزرع الفرح في عيون المُتألِمين والجرحى ولا تستبدل الوجع سعادة.
ويظل الشعر مرهونا «بلو عاجزة عن القدرة أو الإمكانية» أو مربوطا بمشنقة متأرجحة أو كما قال توفيق زياد ثالث شعراء المقاومة «لو قدرت كلماتي.. أن تُفرح بعض الناس.. لو أمكن أن يقرأها.. في المستقبل طفل في كراس؟».
والكلمات العظيمة تظل كما قال درويش قصائدا « بلالون.. بلا طعم بلاصوت.. إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت.. وإذا لم يفهم البسطاء معانيها.. فأولى أن نذريها.. ونخلد نحن للصمت».
وحينها كما يقول توفيق زياد «وسوى الشعر.. و إيقاد النار.. وتشخيص الآتي.. أنا لا أملك شيئا».
ليس صحيحا أنه عندما يفقد الإنسان قمحه يصبح الشعر خبزه بل يموت جوعا وليس صحيحا عندما يفقد الإنسان أرضه يصبح الشعر وطنه بل يُصبح لاجئا و ليس صحيحا عندما يفقد بيته يصبح الشعر سكنه بل يصبح مشردا وليس صحيحا وعندما يفقد أمله يصبح الشعر حلمه بل يصبح فاشلا وليس صحيحا عندما يفقد إرادته يصبح الشعر قوته بل يصبح عاجزا،وحينها لايملك الشاعر سوى سبيل التضرع فالله أقوى من الشعر، كما يرمز سميح القاسم في قصيدته متأسف «إلى الله أرفع قلبي وكفي.. يارب حزنا حزنت وأرهقني اليتم.. وأهلكت النار زرعي وضرعي.. بكاء بكيت ويممت وجهي إلى نور عرشك.. يارب.. جارت علي الشعوب.. وسُدت أمامي الدروب.. تضرعت.. صليت.. ظلامي شديد وليلي ثقيل طويل.. فأنعم عليَ بنور السماء وجدد ضيائي.. برد الكآبة قاس وحر التخلي.. شديد مقيت.. بلاد أبي أصبحت مقبرة.. منازل من آمنوا مقفرة.. بساتين من آمنوا مُسحرة.. مدارسهم مٌنكرة.. وأحزانهم عتمة ممطرة.. إلهي عذابي طويل وقاس ومؤسف.. وأنت غفور رحيم منصف.. إلهي أنا متأسف.. أنا متأسف»
رحل سميح القاسم وهو يردد أنشودة الموت كما رددها قبله محمود درويش «أيها الموت انتظرني خارج الأرض.. انتظرني في بلادك.. ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي».
حتى أضحى الموت لديهما صديقا خاصا،بل تلك الحالة من الخصوصية للموت هي جزء من عقل المقاومة؛ عندما يرتبط الموت بالعطاء وتكرار حصوله هو امتداد لفكرة عودة الأرض المخطوفة والأرواح الحزينة المقبوضة أجسادها تحت أنقاض الظلم، وهاهو توفيق زياد على المسار ذاته جرى «على مهلي.. لأني لست كالكبريت.. أضيء لمرة.. وأموت ولكني.. كنيران المجوس:أضيء من مهدي إلى لحدي.. ومن.. سلفي إلى نسلي..
لأن وظيفة التاريخ.. أن يمشي كما نملي.. طغاة الأرض حضرنا نهايتهم.. نطيل حبالهم لا كي نطيل حياتهم.. لكن.. لتكفيهم لينشنقوا»
هذا الاتجاه يظل فكرة برّاقة عند شعراء المقاومة؛ أي ترحيل قيم الحياة إلى الموت ليظل الموت في ظل المقاومة هو حقيقة الحياة،والحياة في ظل الخضوع للظلم والاستسلام للتجريف المتكرر هو الموت ويصبح المستسلمون لذلك التجريف، كما يرى سميح القاسم مجرد موتى بلا موت «يا أيها الموتى بلا موت.. تعبت من الحياة بلا حياة.. وتعبت من صمتي.. ومن صوتي»
رحل سميح القاسم شاعر المقاومة في غروب يوم حزين كان جسد غزة يثقب بصواريخ الجرف الصامد مع مئات الأرواح التي اخترقت أجسادها شظايا صواريخ عمياء لا تفرق بين طفل وشيخ وامرأة ،فعاش مع المقاومة ورافقت روحه شهدائها من الأطفال والشيوخ الذين قال يوما عنهم
«يموت منا الطفل والشيخ.. ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولاتستسلم
لن تكسروا أعماقنا
لن تهزموا أشواقنا
نحن القضاء المبرم»
رحل سميح القاسم وهو مايزال كما وصف نفسه «دم أسلافي لم يزل يقطر مني.. وصهيل الخيل مازال.. وتقريع السيوف.. أنا أحمل شمسا في يميني وأطوف..
في مغاليق الدجى.. جرحا يغني
أحس أننا نموت.. لأننا.. لانتقن النضال».
رحل سميح القاسم ولم تسقط قصفة الزيتون من كفه، رحل ومازال قلبه «قمرا أحمر» و «بستانا فيه العوسج والريحان» ليُصبح جزءا من الأرض المباركة.
رحل بعد أن تعب «من الرواية والرواة.. ومن الخيانة والجناة.. ومن المحاكم والقضاة..» وسئم من «تكليس القبور.. وتبذير الجياع.. على الأضاحي والنذور»
رحل ومازالت وصيته الأخيرة قيد التنفيذ أن يحكى للعالم «عن بيت كسروا قنديله.. عن فأس قتلت زنبقة.. وحريق أودى بجذيلة.. عن شاة لم تحلب.. عن قهوة صبح لم تشرب.. عن عجنة أم ما خبزت»
رحل سميح القاسم الذي آمن بحياة المقاومة الذي ما أحب الموت يوما وما خاف منه يوما لأن الإيمان بالحياة هو الذي يمنح الإنسان قوة التحدي التي ترعب كل ظلم وطغيان «فسأحمل فاسي.. سأشج حماقات الأوثان.. وسأمضي.. قدما قدما.. في درب الشمس.. باسم الله.. باسم الإنسان»
رحل سميح القاسم في ضجيج الصواريخ وبكاء الأطفال وخوف النساء وبسالة الشباب وهم يتقدمون بصدورهم يتحدون صانع الظلم والموت يرددون أنشودة التحدي لسميح القاسم «يا عدو الشمس إني لن أساوم ولآخر نبض في عروقي سأقاوم» رحل وكل فلسطيني يزفه إلى مثواه الأخير بقصيدته التي أصبحت جزءا من حماسة المقاومة «رسالة إلى غزاة لايقرؤون.. تقدموا.. تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم»زّف سميح القاسم إلى مثواه الأخير والجميع يردد أيقونة الصمود «منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي».
رحل سميح القاسم وسيظل كل فلسطيني يردد قصيدته «يا شعبي.. حيّحيّ أنت
يداك المرفوعة في وجه الظالم.. راية جيل يمضي.. صوتك يا شعبي اغنيتي الشعبية
من بيت الى بيت.. وتزلزل جدران سجون القاتل والسارق.. انهض فوق ركام الموت
ولتسمع كل جهات العالم هذا الصوت.. يا شعبي الغاضب حي أنت.. كيف يفهم أعداء الشمس هذا الدرس»
رحل سميح قاسم ومازال بكاء آلهة الشعر ترافق أرواح شهداء غزة الباسلة، والعرب يتفرجون ويكررون «يا إلهي إننا متأسفون.. متأسفون».