قالت لي الراءُ المرهفةُ وقد لفتّ نظرها واسترعيت انتباهها: لقد سألتني عن الأرض ولم تكن مرائياً، أو متاجراً ونهّازَ فرصٍ، أو مسايراً لانحناءات وضرورات ثقافة الاستهلاك السائدة السالبة، أو مسافراً مغترباً اغتراباً اختيارياً لا إجبارياً، كما يفعل بعض مثقفي اليوم عبر الأوطان، تقطع البحار والصحاري باحثاً عن بطولاتٍ مزيفة، أو عن بديلٍ لتوجه عبره النبال إلى صدر أمّتك أهلك وديارك، وقد لاحظت أنك كتبت عن الأرض والأوطان عمراً، حتى عندما كنت تكتب عن الحروف العربية، وليس عن الراء فحسب، وأنك حين تكتبُ عن المرأة تكتبُ عن الأرض في النهاية، والعكس قريبٌ من ذلك، إن لم يكن ذلك، وأنك تخاطب المرأة في رسائلك الأخيرةِ رسائلِ الياسمين التي تخاطب فيها الشعراء والكائنات والقرى، بينما فحوى الرسائل وجوهرها قضايا الأرض والأوطان، أليس هذا بغريبٍ في نظرك، إنه غريبٌ على ما معظم ما ينشر لديكم مع موجة النفور والتملّص من قضايا الأمة، وتحديداً قضيتها المركزية فلسطين، وموجة الاغتراب، وفهم التحرر والتغيير والتجديد على أنه تنصّلٌ من القضايا الكبرى، وتخلصٌ من الالتزام، وغوصٌ في المتع الجسدية والحسية لا المعرفية، وذلك يتكرّر بشكل كبير في الرواية والسرد، كما يتخمّر في آراء منظري الشعر والأدب والإعلام الجدد نسبيّاً، حتى رأيناه يتخدّر في نتاج عدد لافت من الشعراء العرب منذ فترة ليست بالقريبة، وكذلك في واجهات الجرائد والإعلام، ووسائل النشر والتواصل الحديثة؟!
كل هذا محل تقديرٍ كبيرٍ عندي، يا حبيب اللغة والحروف والهوية والأوطان.
قلتُ لها يا سيدتي هل هذا هو السرّ.. هل هذا هو سرك؟!
أنا سري وجهري وجمري وشعري الأرض والأهل:
" الأرضُ أرضُ الذي يسعى لعزتها والموتُ موتُ الذي يسعى بها كذِبا"
الأرض يا سيدتي النابهة هي الإنسان بشكل عام، وُجدت له، وخلق منها، وإليها يعود. وهذه الأرض للمؤمن، هي للمؤمنين أورثناها الله، وهي أرض الخلافةِ والرسالات، ومهد الحضارات:
" وكونوا الخلائفَ في جنةِ الله، أرضِ الرسالاتِ،مهدِ الحضارات..
مفروشةً بالغمامِ، ومعروشةً بالعنبْ.
وكونوا الثوابتَ والعاديات،
أعدّوا لهم ما استطعتم من الكبرياء مسوّمةً بالجلالِ وممهورةً بالغضبْ."
والأرضُ بشكلٍ أو بآخر هي الأهل، ونحن أصحابُ وأهلُ قضيةٍ وأرض، وأرضنا تشعر مثلنا بالغربة والقهر والعطش، وتحتاج لأنهار الماء، ولأنهار الدماء لكي تتطهر من رجس الغاصبين، وقد استخلفنا فيها، وأرادنا أن نعمرها فما عمرناها، بل قتلناها من الوريد إلى الوريد.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (165( الأنعام.
ثم قلت لها يا سيدتي آن لي أن أودعك وما ارتويت منك، وإني لعمرك حزين لفراقك وقد أسرتني بلطفك، ولكن لا بد لي أن أنتقل كما العصافير والطيور المهاجرةِ إلى شجرةٍ أخرى، وحرفٍ آخر. وأنا أرى فيما أرى أن خير ما أختم به حواري معك هو تذكيرك بما يليق بك من جمال وجلال تعبيراً عن امتناني وشكري، فقد لاحظت وقد استشهدت بآخر آيةٍ من سورة الأنعام، أنك حاضرةٌ فيها بتفرّد وهيبةٍ، ورغم أن هذه السورة عن الأنعام حيث غياب العقل، وعن التشريع والحلال والحرام، إلا أنها تتمحور حول الإسلام والإيمان والتوحيد عبر العقل والتبصر والتدبر في عظمة الخالق وعظمة ما خلق. ويرد فيها البصر والتبصر والنظر ومشتقاته والنور والرؤية العينية والاعتبارية كثيراً، وتتكرر فيها الراء بشكلٍ ساحرٍ أخّاذ، ومن ذلك:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1)
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (6)
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (11)
{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (24)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (27)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (30)
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (40)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (47)
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (50)
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (78)
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (91)
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(104)
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (110)
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (122)
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (158)
هنا أشد رحالي يا سيدتي الكريمة بعد أن قضيت قرابة الشهرين في ضيافتك الفاخرة الغامرة، شاكراً لك مطرَكِ وعطرَكِ وكرمك، حامداً الله الذي جعلنا مسلمين بالفطرة، وأراد لنا الهداية فشرح صدورنا للإسلام، ولم يجعلها ضيقة حرجة، وجعل ديننا دين رحمة لا إرهاب حيث كتب ربنا على نفسه الرحمةَ وهو الرحمن الرحيم، وجعلَ نبينا محمداً العربي الأمين نبيّ رحمة ورأفة، وما كان فظا ولا غليظ قلب، صلوات الله وسلامه عليه، وجعل لغتنا الأمّ العربية المبينة الرصينة، وكرمها وكرمنا بالقرآن الكريم، وجعلكِ منيرةً بين حروفه وحروفها العالية، وجعلني صاحبَ رسالةِ حقٍّ وخيرٍ وحبٍّ وجمالٍ وسلام.
فالسلام السلام!!
** ** **
*المقاطع الشعرية للشاعر كاتب المقال