في صف تعليم الكتابة الإبداعية الذي أعطيه في جامعة أيوا، أواجه الكثير من المفارقات تبدأ من علاقة مشوهة مع لغتنا يعاني منها الشباب العربي، إلى انعدام القدرة على التعبير الحر، إلى فقر مدقع في قاموس المفردات. لكن لغتنا جميلة وغنية، أقول لهم، واللغة ليست مسؤولة عن فقر المفردات لديكم. تلك هي أهم المفارقات التي أتوقف عندها كل مرة أثناء تعليمي الكتابة الإبداعية، وتدعوني إلى التفكير بلغتنا الجميلة وطرق تعليمها، كذلك إلى التفتيش عن وسائل تعليم تجذب الشباب العربي وتجعله يعيد الثقة بلغته وبقدرتها على أن تكون لغة التعبير الأولى.
ليلى، الشابة الأمازيغية المغربية، لم تشأ في بداية الأمر أن تدرس اللغة العربية معي. لقد أساءت فهم الدعوة التي تلقّتها لتقديم طلب للالتحاق بصف الكتابة الإبداعية في جامعة أيوا. ظنّت أنه برنامج لتعليم اللغة الإنكليزية والأدب الأميركي فيه هو المادة الرئيسية. كذلك كان حال هدى من مصر وياسر من الأردن وبشرى من البحرين. إلا أن البرنامج العالمي للكتابة في جامعة أيوا الذي أعلّم من ضمنه، قد أطلق منذ عام 2008 مبادرة بعنوان «بين السطور» وهي عبارة عن دورة صيفية تعلم باللغة العربية وتهدف إلى تعزيز التبادل الثقافي والأدبي عبر استقبال شباب عرب لمدة أسبوعين إلى جانب طلاب أميركيين في صفوف الكتابة الإبداعية، يتبادلون المعرفة والثقافة والعادات والأدب والتعرف إلى مدينة أيوا. أضيف هذا العام طلاب روس إلى الدورة. إلا أن بعضا من الطلاب العرب يصلون إلى الدورة مع فكرة خاطئة عن البرنامج، معتبرين أنهم هناك لتعلم الأدب الأميركي فحسب، وأنّ على لغتهم البقاء في أدراج من حيث أتوا.
لكن سرعان ما يكتشفون خطأ تفكيرهم ويبدأون بالاعتياد على صف اللغة والأدب العربي لمدة ثلاث ساعات يوميا!
قد يكون الوضع خيبة أمل بالنسبة لهم، لأن التجربة الأولى مغامرة لا تُنسى، خاصة أن أحد شروط الدورة ألاّ يتجاوز الطالب التاسعة عشرة من عمره. كمعلمة للصف، علي دائماً أن أقوم بجهد مضاعف، بل أكثر، لدفعهم نحو بناء علاقة مختلفة مع اللغة. عليّ أولاً أن أمسح خيبة الأمل هذه. ثانياً أن أشجعهم على الكتابة الإبداعية عبر طرق مغايرة للوسائل التقليدية التي اعتادوا عليها. ثالثاً أن أجعلهم يكتشفون كنوز لغتهم إن من حيث المفردات أو المعاني والتعابير، التي مُنعوا سابقاً من التعرّف إليها أو استعمالها من قِبلِ نظام تعليمي لا يفصل بين اللغة كوسيلة تعبير حرة وكتراث ثقافي، وبين قيم بائدة تريد التحكّم باللغة. أخيراً كان علي التأكيد بالقول وبالفعل أنّ لغتنا تستطيع أن تكون الوسيلة الأمثل للتعبير ولكتابة نصوص ذاتية. نصوص كتبوها سابقاً باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
يبقى القول الأهّم إنّ جوهر الكتابة الإبداعية لا يتعلق بتقنيات تعليم اللغة العربية فحسب بل هو مرآة للهموم والهواجس المتعلقة بمستقبل العالم العربي وأسئلة مجتمعاته الثقافية والحضارية. لم تكن صدفة أن أضيف اسم ليلى الأمازيغية إلى الأمثلة التي أعطيتها. إذ إن من ضمن سلّة الأيديولوجيات التي استعملتها الأنظمة الحديثة في العالم العربي كان ربط اللغة بالهوية: أنت تتكلم العربية إذاً أنت عربي! لكن نجد الآن، مع ما يحصل من تغيرات هستيرية تفوق الوصف، نزوعاً للبحث عن مفهوم جديد للهوية خاصة حين أسمع بعض تلامذتي يقولون لي «أتكلم العربية لكنني لست عربياً» أو «أنا عراقي أو مغربي أو سوري لكنني لست عربيا». أشير هنا إلى الأقليات العرقية والإثنية في العالم العربي.